
أن تصبغ النوافذ بـ «النيلة الزرقاء» فيما الحرب لن تقع!
افتتح فجر يعقوب كلا من فصول روايته الستة عشر بسطور كتبها أدباء ومفكّرون من أنحاء العالم. في أغلب هذه السطور- النصوص يظهر كورونا كاشفا عن عجز العالم. كأن هذا الوباء انبعث من خارج ما اعتاده البشر على فهم الكوكب الذي يعيشون فيه، ويسعون إلى تطويره أو تخريبه. الفشل الذي أتت كورونا لتثبته تبدّى، حسب تلك النصوص، في المجتمعات ذات النظم المتقدّمة. فكلما ذهبنا قُدما في ما تحقّق من ادّعاء السيطرة على الأرض كان الفشل أفدح.
ولا صلة بين تلك النصوص وما تحتها، أقصد الرواية بشخصياتها وأحداثها وبنيتها. لا أحد من بشرها أصيب بهذا الوباء، ولا شيء يدلّ على أن وقائعها جارية في زمنه، باستثناء أنها كُتبت، حسب الكلمات القليلة التي ذيّلت الختام، «في زمن كورونا 2020- 2021». سيكون على قارئ الرواية إذن أن يعقد، على طريقته وباجتهاده الخاص، تلك الصلة بين ما تخبره الرواية وما تصفه، مع المقدّمات الكثيرة التي تسبق فصولها.
زمن الرواية، ذاك الذي تجري فيه أحداثها، تخيّليّ أو افتراضي. أما المكان فهو معمل كرتون ضخم تابع للدولة (غير المسمّاة ولا المتعيّنة) وبخلاف ما هو معتاد من عمل مؤسّسات الدولة عادة، نرى مديرها نشيطا وطموحا راغبا في احتكار صناعة الكرتون برمتها. لكنّ هناك في الرواية مكانا آخر، خصوصيا هذه المرةّ، وهو عبارة عن غرفة ضيّقة يشغلها حوّاس الرضابي، الناقد الأدبي الذي عوقب بتعيينه حارسا، ليليا أو نهاريّا، للمؤسّسة. هنا، في تلك الحجرة الضيّقة يجري ما هو عادي ويومي، ومن ذلك اختلاء الرضابي بعشيقته هيام، وتناوله أقداح الخمر وبقاؤه صامدا إزاء ما يخطّطه المدير للخلاص من وجوده. في ما بقي من المؤسّسة، أقصد مبانيها كلّها، فلا شيء تقريبا يحدث فيه. لم تأت الرواية على ذكر ما تصنعه ماكيناته ولا كيف تقسّمت جدرانه على نحو ما ينبغي لأيّ مكان مثله. هو مكان وهمي، أو رمزي، أشبه بأن يكون كرتونيّا هو الآخر، علبة هائلة الضخامة يزدحم فيها رجال كثيرون، لم نتعرف على ملامح أحد منهم. جمهرة في خليّة عمل نشيط تذكّر برواية جورج أورويل، حيث صوت الـ»بيغ براذر» يذيع، بالمكبّرات، التعليمات لحظة بلحظة، لقيادة الحشد العامل وإحكام السيطرة عليه.
وما يزيد عوالم «نيلة زرقاء» غرابة، وجِدّة ربما، هو أن المتنازعين فيها هم جماعة الأدب. نقّاد أدبيون يتنافسون، حتى الموت، ويتسابقون لاحتلال مواقف يتفوّقون فيها على بعضهم بعضا.
ما أضافه مدير المصنع (أشرف الخازن) على نموذج الأخ الكبير، أو على نماذج الأخ الكبير العديدة (الأخوة الكبار) هو ابتكاره لفكرة صبغ سطوح المؤسّسة ونوافذها بالـ»نيلة الزرقاء» متذكّرا بذلك ما قامت به مدن عربية وغير عربية إبان حروبها لتعمية الطائرات المغيرة. لكن المدير استعاد ذاك الصباغ دون وقوع حرب، أو حتى دون تهديد بوقوعها. مستخدما مكبّرات الصوت راح يصرع عمّاله ببثّ أصوات طائرات حربية وانفجارات ذات دوّي هائل، على مدار الساعات والأيام. هي ديكور حرب، أو حرب وهميّة لكنها مخيفة ومهولة إلى حدّ أن امتثال هؤلاء، بل ونشاطهم الإنتاجي، تعدّيا قدراتهم القصوى، تبعا للخوف وجنون الحماسة الميكانيكية التي تثيرها فيهم الأصوات. ومثلما كانت الحرب المصطنعة شديدة الوقع على من عاشوها، كان الاحتفال بانتهائها، الوهمي أيضا والعابث طالما أن ما أدّى إلى إيقافها لا يتعدّى انفلات شريط كهربائي، لكن مع ذلك قرّر الناجون الاحتفال بنهايتها، متضامنين معا كأنهم رجل واحد. ولم يكن ممكنا البدء بالاحتفال «دون إزالة صباغ النيلة الزرقاء أولا، فقد انتهت الحرب إلى غير رجعة، ولم يكن هناك غالب ومغلوب، ولم يكن فيها معتدٍ أصلا، أو معتدى عليه».
لكن ذلك لم يمضِ دون أثر. كان الصباغ النيلي قد صبغ عيون العمّال بلونه، وهم اكتسبوا، حسب ما خطّط لهم أشرف الخازن، طبائع الفئران التي حجزت في جحورها، لكن، مرّة أخرى، يربط متتبع فصول الرواية ما قرأه بتجربة يمكن أن تكون حصلت فعلا في مكان عربيّ، محاولا المطابقة بين عالم الرواية وصورة ما عن بلدان يعرفها. شخصيات الرواية، نساء ورجالا، يحملون أسماء مألوفة، أو يمكن أن تكون كذلك، في وقت ما يؤدّون أدوارا من روايات نقلت عوالم لا تشبه عالمهم. هكذا راحت محليّة تلك الأسماء (أشرف الخازن، حوّاس الرضابي، هيام) تبدو مختلفة عن العالم الفانتازي وغير الأليف الذي تتحرّك فيه.
وما يزيد عوالم «نيلة زرقاء» غرابة، وجِدّة ربما، هو أن المتنازعين فيها هم جماعة الأدب. نقّاد أدبيون يتنافسون، حتى الموت، ويتسابقون لاحتلال مواقف يتفوّقون فيها على بعضهم بعضا. لم يسبق في عمل روائي أن اختلط الطموح الأدبي بعالم الفساد خارجه، كأن يصل الانتقام بين جماعته إلى حدّ القتل. على الدوام يظل يفاجئ تداخل العوالم الشديدة الاختلاف عن بعضها بعضا. هنا سيكون على القارئ جمع هذا التفرّق في سياق متجانس.
رواية فجر يعقوب«نيلة زرقا» صدرت عن «دار موزاييك للدراسات والنشر» في إسطنبول- تركيا. عدد صفحاتها 184، أما صدورها ففي السنة الحالية 2022.
حسن داود
كاتب لبناني