
الإسلام و الذات و الحرية
مبادرة السيدة كاهنة بهلول إلى فتح فضاء روحي هادئ للعبادة والتأمل والترتيل الساكن، يندرج في المسعى العام والعالمي للبحث عن معنى الإسلام عند كل مسلم يعبِّر فيه عن كل ما يخترقه من معان وتنطوي عليه سريرته ويطرأ على تفكيره، ومن هنا عنوان كتابها: إسلامي وحريتي، الذي رصدت وسردت فيه تجربتها الشخصية مع الإسلام، حيث قضت نصف عمرها الأول في الجزائر، بلاد القبائل ونصفه اللاحق في فرنسا حيث تلقت التكوين والتنشئة والتربية العلمية والمدنية هي التي ولدت أصلا في فرنسا من أب مسلم وأم فرنسية كاثوليكية.
الإفصاح عن روح الإسلام الذي يسكن كل واحد فينا هي التجربة التي لم تعمم بعد حتى يساوق الدين كذروة عليا مع المستوى العلمي والحضاري الذي وصل إليه المسلم اليوم. فلم تعد المساجد هي مقاصد العلم والتعليم، كما لم تعد الزوايا مراقد لليتامى وملاذاً للمساكين، بل هنا دورٌ للرعاية الاجتماعية تتكفل بها مؤسسات الدولة ذات الخاصية العمومية، أما المجال الروحي والمعنوي والأخلاقي فيدخل ضمن المجال الخاص، حيث يقيم الشخص صلة عضوية ووشيجة خاصة بينه وبين سبحانه، أي الصلة العمودية الصاعدة إلى السماء، تلتقط اللغة ومعانيها في رحابتها وسعتها وشجاعتها الإنسانية. فالصلة الروحية بين العبد وخالقه يجب أن تظهر في تعبيرات وأخلاق الإنسان المسلم وليس في طريقة الخضوع والخنوع والانسياق إلى ما “وجدنا عليه آباءنا و أجدادنا”. فالإسلام الكاشف لرسالته إلى العالمين في عصر العولمة يمنح لكل شخص أن يعطي معنىً لحياته، خاصة منها الروحية و هي أهم ما يمكن أن يعبر عنه وعيه و يلتزم به ضميره.
فالإسلام دائما هو ذاتي على ما جاء في أول كتاب أصدره المفكر الفرنسي عبد النور بيدار في أول تجربة روحية له قبل عقدين من الزمن. فقد صاغ تجربته مع الإسلام في كتاب عام 2006 ليشير إلى إمكانية الإسلام على الإفصاح عن نفسه من خلال تجارب شخصية وتعبيرات مختلفة تؤكد التنوع وازدهار داخل الدين عندما يتوفر له الفضاء اللائق به، خاصة المجال العمومي الذي لا يقبل الاحتكار، والديمقراطية لا التي تقبل المضايقة والحصار.
المجال الروحي والمعنوي والأخلاقي يدخل ضمن المجال الخاص، حيث يقيم الشخص صلة عضوية ووشيجة خاصة بينه وبين سبحانه، أي الصلة العمودية الصاعدة إلى السماء
في كتاب السيدة كاهنة بهلول، “إسلامي وحريتي”، الصادر مؤخراً عن دار ألبان ميشال، ضمنته تجربتها مع الدين الإسلامي الذي يعبّر عن عالم روحاني وعرفاني قبل أي اعتبارات أخرى، فرائدها و مثَلُها الأعلى هو المتصوف الأندلسي الكبير محي الدين بن العربي المعروف بالشيخ الأكبر الذي تتوحد عنده الديانات، صاغها بلغة عربية، ورد بها القرآن الكريم ليس بما هو حروف فقط، بل بما تنطوي عليه تلك الحروف، ناهيك عن معان باطنية وإشارية وروح دلالات تخفيها العبارات والآيات المكتوبة والمدونة فضلا عن الآيات الكونية، لتصبح التجربة كلها عبارة عن فتوحات، كما عنون كتابه العظيم “الفتوحات المكية”. الفتوحات وفق مسار وسيرورة إمامة مسجد السيدة فاطمة في باريس هي فتوحات على مستوى المكان فرنسا “المسيحية” وعلى مستوى الجَنْدَر، امرأة تتداول وتتناوب إدارة وقيادة الصلاة الجماعية بالمشاركة مع رجل معتزلي. وهكذا، فقيمة و أهمية التجربة الإسلامية الجديدة، في قلب العاصمة باريس هي من فتوحات العولمة في آخر تجلياتها التي تتيح فرصة التعبير والإعراب لكافة الناس، أو المواطنين في المصطلح السياسي والقانوني المعاصر.
تدشين مسجد أو مصَّلَّى أو حتى قاعة صلاة في بلد ذي أغلبية مسيحية ولا دينية هو فتح مبين اضطرت إليه امرأة مثلها مثل الرجل، على أساس أن التجربة لا يمكن أن تتم في نظام عربي سلطوي قاهر أو في سلطة عسكرية قائمة في غير بلد، خاصة في الجزائر التي أخذ فيها المسعى الديني انحرافات خطيرة صارت تؤثر على السياسة والأخلاق والاقتصاد ناهيك عن الحياة الاجتماعية والدينية ولعلّ المفارقة هي الإشكالية التالية: كيف في بلد تزيد فيه عدد المساجد باطّراد يزيد فيه تباعا منسوب الجريمة بكل أنواعها وأشكالها ومواصفاتها التي رصدتها القوانين الجنائية والبيانات الرسمية، لا بل حتى التي لم ترد فيها وأبدعت فيها السلطة بقوتها التسكينية باعتبارها من الأمور العادية التي ألفها الشعب، مثل تزييف إرادته السياسية، وصرف أمواله على مشاريع وبرامج لا تهمه أو تطلب فقط من أجل توزيع ريعها الفاسد على عصابات الإجرام المعهودين على ما يؤكده عدم الاستقرار الحكومي واستشراء الأزمة المتواصل .
هذا الوضع في الزمن الفائق الكاشف لكل حقائق الدنيا هو الذي يدفع اليوم إلى التعبير عن ما يخفيه البشر وفق المستوى التعليمي والعلمي الذي وصلوا إليه بحيث يجب أن يطال أمر إصلاح المساجد بما هي بيوت الله، تراعى فيها الهندسة الرائعة والسكينة المطلقة، وبما هي مؤسسات روحية تعنى فيها اللغة العالمية والأخلاق الإنسانية التي تليق بجغرافية القرية الصغيرة الواحدة. ومن هنا، يجب أن لا ننسى جدلية السياسي و الديني والاجتماعي في ظاهرة البنايات العشوائية للمساجد لحظة ما قبل العشرية السوداء، التي تمت في غالبيتها على حواف المدن ومحيطها، صارت على أثرها دور العبادات امتدادا لمناطق الظل والأحياء القَصْدِيرية والعمران الفوضوي، انعكس في نهاية التجربة على الصلة المتوترة بين السلطة و المجتمع كانت نتيجته ولا تزال تفكك الدولة و المجتمع معاً.
المؤمن اليوم و في عالمنا الراهن هو مواطن بصيغة العالم كله، يمكنه أن ينتقل إلى كل بلاد الدنيا ويدرك آيات الله في خلقه و ينعم بحياته الروحية و المعنوية التي تسكن نفسه ويعرف قدراته الجسدية على ما نشاهد ونلحظ لمن يحسن بطبيعة الحال الرؤية ويَعْصم نفسه عن الطائفية ومشاعر الحقد والكراهية و يصهر ها في الحال و المآل في لحظة تفكير واحدة. وتجربة السيدة كاهنة بهلول هي من هذا القبيل الذي لم يتوقف عند حال و تطلعت إلى ما يدخره المآل، حتى و لو كان في بلد مستعمِر الأمس الذي يجب أن لا يستغل خيراته وعائداته فقط من قبل أولئك الذين صاروا يقتاتون من خطاب معاداته كتقية و قناع لصرف الجزائريين الآخرين عنه. نعم، تعاطي الريع من رصيد ذاكرة التاريخ الاستعماري وحرب التحرير حقيقة موجودة و مألوفة، لا يمكن أن يعاند فيها إلا مكابر صلف.