
الإيداع النصي القرآني والتفاعل النصي
نجد في ما أودِع في القرآن الكريم من الكتب المنزلة السابقة ما يمكِّننا من وضعه في إطار نظرية التفاعل النصي العامة، خاصة ما اتصل منها بالتعلق النصي بين نص لاحق وآخر سابق. غير أن العلاقة بين النص المتعلِّق، والنص المتعلَّق به لا تخضع لما طرحه جيرار جينيت في المتعاليات النصية. فلا حضور في الإيداع النصي القرآني للمحاكاة التي هي الوجه السائد في العلاقة بين النصوص، وإن كنا نجد التحويل والمعارضة.
إن محاكاة النص اللاحق للسابق تتجلى في محاولته السير على منوال سابقه، سواء على مستوى البناء النصي، أو لغة الكتابة، أو المحتوى. وفي كل هذه العناصر نجد القرآن الكريم مختلفا عن كل النصوص السابقة المبنية على أساس ديني، وعلى كل المستويات، فبناؤه النصي ذو خصوصية يجعل معماريته مباينة لما نجده في التوراة أو الإنجيل، أو حتى في الشعر العربي، الذي كان بعضه محملا بمقومات دينية كما نجد ذلك عند أمية بن أبي الصلت وغيره، أو ما نعثر عليه في سجع الكهان، أو أقاويل اليهود والمسيحيين أو الصابئة، ممن كانوا يعيشون في شبه الجزيرة العربية. ويمكن قول الشيء نفسه عن لغته المختلفة جذريا عن اللغات الكتابية السائدة. أما عن محتواه السردي، فإنه وإن كان يلتقي مع ما هو سائد حول قصص الأنبياء والأمم الغابرة، فقد قدم في النص القرآني بشكل مختلف، سواء على مستوى القصة أو الخطاب أو النص.
يدعي مستشرقون وعرب أن القرآن الكريم ساهم في تأليفه مؤلفون كثيرون، ويذكرون أسماء كثيرة متباينة الخلفيات والثقافات واللغات، وفي زعمهم كون الرسول (ص) استعان بهم في التأليف، يتناقض مع ما نجد فيه من خصوصية وانسجام لا نعثر عليهما فيمن تأثر بهم أو استلهم منهم. إن مصادر كل الذين يقدمون على أساس أنهم أصل القرآن هم أيضا وليدو المصدر نفسه، لكنه تغير مع الزمن. لذلك جاء القرآن الكريم «مصدقا» لما كان بين أيديهم، وفي الوقت نفسه «محققا» له.
لقد تفرد النص القرآني في علاقاته بالنصوص المنزلة بخاصيتين اثنتين: التصديق والتحقيق. يبدو لنا التصديق في أن الإنجيل يصدق بما ورد في التوراة:
«ومصدقا لما بين يديّ من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم» (آل عمران 50).
كما يصدق القرآن الكريم بكل ما ورد فيهما معا:
«وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ، فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» (المائدة 48).
إن تعبير «بالحق» و«مهيمنا» يبين أن الإيداع النصي القرآني تحقيق لما ورد في الكتب السابقة عن طريق سلب ما تعرضت له من تحوير نتيجة الأهواء التي تدخلت في طبع تلك النصوص بما يخالف ما جاءت به في الأصل. إن النص اللاحق الإنجيل جاء مصدقا لما ورد في التوراة، ومحققا لما وقع فيه الاختلاف الذي سيطرأ عليه أيضا. وهو ما وقع مع القرآن الكريم الذي نزل محققا لما طرأ من تغيير في الإنجيل والتوراة معا. وفي هذا التحقيق نجد معارضة ما هو مدون في المسيحية واليهودية معا. وفي مخاطبة الله للمسيح بقوله: «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم. أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين دون الله؟ قال سبحانك. ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. إن كنت قلته فقد علمته. تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك. إنك أنت علام الغيوب» (المائدة 116). نتبين بجلاء أنصع الأمثلة الدالة على التغيير الذي طرأ على الإنجيل. وما مخاطبة المسيح باسمه ونسبته إلى أمه ما يدفع أي التباس على أن الحديث عن غيره. وفي تصريح عيسى بأنه كان مبلغا لما أنزل عليه، ولا يمكنه أن يقول إلا الحق. وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة على هذه المعارضة، وما تؤدي إليه من تحويل لما ورد في النصوص السابقة لتتلاءم مع ما جاء به القرآن الكريم في علاقته بتلك النصوص.
إن النصوص التي جئت بها، كما نلاحظ، هي جميعا من السور الطُّوَل التي تبرز لنا بوضوح علاقة النص اللاحق (القرآن الكريم) بالنصوص السابقة، والموقف النقدي الذي يتخذه منها تصديقا وتحقيقا. إن كل المستشرقين، ومن سار على منوالهم من العرب، يؤكدون أن السور الطوال قد ألفت قبل القرآن الكريم. وعندما نتأملها جيدا نجدها مرتبطة بسياق النبوة، وعلاقتها بما قبلها متصل بما ورد في التوراة والإنجيل، وغيرهما من الكتب يدخل في نطاق ما سميناه «الإيداع النصي القرآني» من خلال «التحقيق» الذي يكشف عما ورد فيها من تغييرات تؤكد لنا مجتمعة أنها من مصدر واحد.
إن القراءات الفيلولوجية والتاريخية لا تصمد أمام نظرية التفاعل النصي التي تنطلق من النص ذاته، وتبحث في علاقته بغيره من النصوص السابقة والمعاصرة. وكما حرفت النصوص المنزلة يتعرض الإيداع النصي للتأويلات والقراءات التي تخضعه لمآرب وأهواء خاصة.
سعيد يقطين
كاتب مغربي