ثقافة و فنون

البحث المزعوم

منذ زمن طويل، وبعد أن أصبحت الإنترنت واقعا مفروضا لا يمكن تجاوزه، والابتعاد عنه، وأصبح العثور على أي شيء مهما كان صغيرا أو ضحلا، ممكننا عبرها، تضاءلت خصوصية الناس، وصار بالإمكان مخاطبة من تريد بلا حواجز، ولا رهبة، ولا إحساس بالحرج، أي يمكنك أن تحيي فنانك أو كاتبك أو شاعرك المفضل، ويمكنك أيضا أن تهزأ بمبدع لا يروقك، وأن تجعله يقرأ استهزاءك بكل بساطة.
والمتابع للإنترنت حتى لو كانت متابعة بسيطة، ولا تتعدى الدقائق في اليوم، لا بد سيتعرف على هذا الواقع الافتراضي، وقد يشارك فيه، أو يجد نفسه مشاركا فيه قسرا، إما مباشرة عبر مراسلته، أو ضمه لمجموعة قد تكون اهتماماتها بعيدة جدا عن اهتماماته، وقد تكون تطلعاتها أقل كثيرا من تطلعاته، مثلا أن يكون شاعرا كبيرا جدا، يجد نفسه من معجبي فتاة مراهقة، تكتب قصص حب غاية في البدائية، أو فنانا ضخما، له جمهور عريض، تضعه المجموعة، متابعا عاديا لمغنية فارغة المحتوى.
أيضا كما نعرف نشأت مواقع القراءة لتتبع إنتاج المبدعين، حيث يضع أحد القراء أو الناشرين، كتابا في الموقع، ويتركه ضحية للقراء، أو القراء المزعومين، الذين لن يقرأوه لكن سيعلقون عليه، بأي تعليق يخطر على البال، وسيقيمونه بالتقييم الذي يراه مزاجهم لحظة الدخول، وقد قرأت في موقع «جود ريدز» أشهر هذه المواقع، تقييمات غاية في التجني لكتب أنتجها عظماء، فلا أحد يصف أسلوب ماركيز مثلا بالركاكة، والبعد عن الخيال، إن كان قارئا حقيقيا، لأن ماركيز يعد من مبدعي الخيال الأصيلين، أيضا لن يقول أحد عن كتابة الفانتازيا، واقعية تقريرية، إلا لو كان بعيدا عن سكة القراءة، ويدخل فقط لتغيير الجو، ولقاء القراء الحقيقيين، ولأغراض أخرى يعلمها وحده.
أنا ككاتب ليس لديّ اعتراض على هذا كله، ولطالما اعتبرت الكتابة، ونشر الكتب وطرحها في الأسواق، عملا ليس مثمرا جدا، بل على العكس فيه الكثير من الكآبة والحزن، واعتبرته قدرا سيق إليه أحدهم، ولم يستطع أن يفر، وتلك التقييمات التي أراها لما أنتجت، سواء كانت سلبا أو إيجابا، هي تقييمات يخضع لها الجميع كما قلت، لكن أود أن أتحدث هنا، عن شيء آخر، هو من نتاج انتشار الإنترنت، وإمكانية العثور على المبدع، لإسعاده، أو تعكير مزاجه، أو تسخيره في عمل ليس ضروريا أبدا بالنسبة له.
في البداية ترد رسالة من شخص يقول إنه باحث في الأدب، يشكر الكاتب على إبداعه، ويمدحه بعبارات فيها الكثير من المبالغة، مثل شكرا على وجودك بيننا، أو لا أعرف كيف كان سيكون الفن من غيرك، وعبارات أخرى مشابهة.
المبدع في العادة، أو في الغالب، لا يكسب ماديا من الكتابة، وقد ينفق شهورا طويلة في البحث عن مادته، وكتابة روايته، ودفعها للنشر، راضخا لشروط العشرة بالمئة التي يضعها الناشرون، ولا يدفعونها حتى، وقد يدفعونها في السنة الأولى، ثم تتضاءل قيمتها بالتدريج حتى تختفي، ويصل العقد إلى مرحلة القول الشعبي: يبله المبدع ويشرب ماءه.

في البداية ترد رسالة من شخص يقول إنه باحث في الأدب، يشكر الكاتب على إبداعه، ويمدحه بعبارات فيها الكثير من المبالغة، مثل شكرا على وجودك بيننا، أو لا أعرف كيف كان سيكون الفن من غيرك، وعبارات أخرى مشابهة.

لذلك تبدو رسالة من باحث بهذا الوقع، مطربة وغاية في الإطراب، وستفتح شهية المبدع، لمزيد من تقبل الباحث، وتقبل رسائله، ومبادلته الآراء في كثير من أمور الكتابة، ثم تأتي الرسالة المهمة، الرسالة التي يعول عليها الباحث، وقد اقترب من صداقة المبدع، أو ربما حصل عليها بالفعل، وأصبحت ثمة وعود باللقاء قريبا في بلد ما، والغداء معا في مطعم السمك المفضل للباحث، إن زاره الكاتب في بلده، تقول الرسالة رجاء مساعدتي في بحثي لنيل درجة الماجستير، أو الدكتوراه في أعمالكم.
المساعدة المطلوبة هنا، ليست شرحا لمعاني كلمات أو جمل، موجودة في نص ما، ليست إجابة عن أسئلة حوارية سيوجهها الباحث المتعمق في تجربة المبدع، ويود إضاءة بعض النقاط المعتمة، لكنها طلب صريح أن يقوم المبدع بتزويد الباحث بكل شيء كتب عن كتابته، بأي حوار أجراه، بأي مادة كتبت بأي لغة عنه، وكتابة صفحات طويلة عن نصوصه، باختصار، كتابة البحث الذي سيحصل به الباحث على رسالته. ساعتها سيصحو الكاتب من غفوة الطرب الذي أطربه، وسيكتشف أن من ادعى البحث، لم يقرأ حرفا مما كتب هو، ويريد الحصول على درجة أكاديمية، سيوفرها له المبدع.
إذن سأضيف إلى ما سميته القراءة المزعومة، أي التي تحدث بلا حدوث، البحث المزعوم، أي الذي يحدث بلا بحث، ومع وجود إنترنت في أي مكان، ووجود مبدع يرقص من المديح المباغت، يمكن الحصول على البحث، كما قد يعتقد من يريده، وفي الواقع لن يكون المبدع متفرغا ليقوم بما يريد منه الشخص الذي أطربه أن يقوم به، هناك ضرورة في الدنيا اسمها البحث عن لقمة العيش، وهذا ليس بحثا أكاديميا، إنه بحث حياتي، يطغى على كل البحوث.
ستحدث جفوة وينتهي الأمر، ويكتب الباحث المزعوم لمبدع آخر، وهكذا تصبح الإنترنت للمبدع ليست أداة تعكير مزاج فقط، بل أداة تعذيب لا ينتهي. بالطبع كانت الأبحاث الأكاديمية تجري قديما عن طريق الركض في ممرات المكتبات، ومحاولة العثور على مرجع مفيد، وأحيانا السفر إلى بلاد أخرى لزيارة مكتبات بعينها، ولا يقدم أحدا بحثه لدرجة أكاديمية، إلا لو كان استوفى شروطا لا يستوفيها أي شخص، وأذكر في بداياتي أن دعيت لنقاش كتاب سيري لي اسمه: مرايا ساحلية، كتبته عن مدينة بورتسودان، وكان مقدم الجلسة الراحل أحمد عبد الله بابكر، وفوجئت أن أحمد بابكر قدّم بحثا طويلا مفصلا عن الرواية وشخصياتها، وتابع خطوات بعض الشخصيات، وعثر عليها في واقع مدينة بورتسودان بداية السبعينيات، دون أي يكون هناك إنترنت، ودون أن يتواصل معي، وكنت على بعد عدة شوارع منه، إنه الإبهار البحثي الذي كان يصبغ باحثي ذلك الزمان وبحوثهم، وليس بحث اليوكبيديا الجديد، وبحث تكليف الكاتب بإعداد البحث، الذي لم أتحدث عنه صراحة، إلا لتكرار المسألة معي، وغالبا تتكرر مع آخرين.

أمير تاج السر

كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: