
التقلّبات المناخية تدق مسمارا في خيام الرحل بالمغرب
ندرة الماء والكلأ تدفع إلى الاستقرار الإجباري في إحدى المدن.
كيف يمكن لقوم أن يغيروا نمط حياتهم دون سابق تحضير؟ سؤال يؤرق مجتمع الرحل في المغرب بعد أن عاشوا أبا عن جد يطوفون المملكة بحثا عن الكلأ والماء لماشيتهم فيحطون رحالهم صيفا ليرحلوا شتاء. واليوم يدفعهم الجفاف إلى الاستقرار في المدينة ليستبدلوا خيامهم بالجدران المؤجرة ويفرطوا في قطعانهم ليبحثوا عن مهن مهمشة لا يجيدونها.
أملاكو (المغرب) – يشعر موحا أوشعلي الذي اعتاد العيش رفقة أسرته على الترحال في جنوب شرق المغرب أن كل “شيء تغير من حوله”. ويقول بأسى “لم أعد أجد نفسي في هذا العالم، حتى الطبيعة صارت ضدنا”.
ويواجه أوشعلي مثل باقي الرحل القلائل الذين لا يزالون يعيشون وفق هذا النمط التقليدي قساوة الجفاف الذي جعل الحصول على المياه والكلأ للماشية أمرا معقدا، فضلا عن ظروف اجتماعية صعبة.
وقد اضطر مع عائلته إلى أن يحطوا الرحال في منطقة خلاء تبعد حوالي 60 كيلومترا عن بلدة الريش الصغيرة، قرب نهر جاف.
ونصب الرجل، الذي يغطي رأسه بوشاح أسود وتخترق محياه تجاعيد، قرب قرية أملاكو خيمتين نسجتا من الصوف الأسود وأكياس الأعلاف الملونة وبقايا ملابس.
محافظة أملاكو الريفية كانت تضم 460 خيمة للرحل لم يبق منها اليوم سوى نحو أربعين بسبب تدهور ظروف حياتهم
كل شيء يدور حول المياه في حياة الرحل، لكنها “أصبحت نادرة بينما ترتفع درجات الحرارة، يضربنا الجفاف دون أن نستطيع فعل أي شيء في مواجهته”، يقول الرجل الذي ينتمي إلى قبيلة آيت عيسى إزم الأمازيغية.
ويعتمد الترحال الرعوي على التنقل سعيا وراء الكلأ للماشية، وهو نمط معمول به في المغرب ودول شمال أفريقيا منذ آلاف السنين، لكنه يتجه اليوم نحو الاندثار.
ولا يتعدى عدد الرحل اليوم نحو 25 ألف شخص، وفق آخر إحصاء للسكان في المغرب العام 2014، مقابل نحو 70 ألفا في العام 2004، ما يمثل تراجعا بقرابة الثلثين في عشرة أعوام.
وتتذكر إدى زوجة موحا أوشعلي أن الأسرة “كانت تستطيع أن تعيش بشكل جيد في الماضي، لكن سنوات الجفاف المتتالية والشديدة تعقّد حياتنا أكثر فأكثر. لا نستطيع فعل شيء بدون ماء”.
وتضيف السيدة البالغة من العمر 45 عاما بحسرة “نحن منهكون”.
ويشهد المغرب هذا العام أسوأ موجة جفاف منذ أربعة عقود، لكن الوضع مرشح للأسوأ تدريجيا في أفق العام 2050 بفعل تراجع الأمطار (-11 في المئة) وارتفاع سنوي للحرارة (+1.3 درجة مئوية)، وفق تقديرات وزارة الزراعة.
ويوضح الباحث الأنثربولوجي أحمد سكتاني أن “الرحل كانوا دائما بمثابة مقياس للتقلبات المناخية، إذا فقدوا اليوم القدرة على التحمّل، رغم تعوّدهم العيش في شروط قاسية، فذلك يعني أن الظرف بات خطيرا”.

ويضيف “جفاف منابع المياه الذي نلاحظه اليوم حتى في المناطق التي يسكنها قرويون مستقرون، يدقّ المسمار الأخير في نعش الرحل”. ويبدأ تأثير التقلبات المناخية أولا في مسار الترحال.
وفي الظروف العادية، كان رحل قبيلة آيت عيسى إزم يقضون الصيف في وادي إملشيل المحاط بالجبال حيث يكون الجو رطبا، بينما يتجهون إلى نواحي محافظة الرشيدية المجاورة الأكثر اعتدالا في الشتاء.
لكن هذا المسار “صار جزءا من الماضي، اليوم نذهب فقط أين نجد القليل من الماء لإنقاذ ماشيتنا”، كما يقول موحا أوشعلي وهو يرتشف كأس شاي.
ويخلّف الجفاف أيضا تداعيات اجتماعية على حياة الرحل، إذ يضطر بعضهم إلى الاستدانة لشراء أعلاف للماشية، وهي المصدر الأساسي للدخل بالنسبة إليهم، كما يحصل مع أحمد أسني.
ويقول أسني متحدثا قرب منبع مياه صغير يكاد يجف على الطريق بين أملاكو والراشيدية “أستدين لشراء العلف كي أغذي قطيعي.. ولا أموت جوعا”.
لكن التأثير الأكثر انتشارا للتقلبات المناخية يبقى في الاستقرار والتخلي نهائيا عن الترحال. وهو الخيار الذي أقدم عليه حدو أوداش (67 عاما) منذ العام 2010، بعدما “تعبت من المصارعة لأجل العيش، أصبحنا مثل المنبوذين في المجتمع، لا أتخيل ماذا يعاني الرحل اليوم”، حسب قوله. وهو اليوم يعيش في بلدة الريش.
كذلك وضع الأربعيني سعيد أوحدا رِجلا في المدينة حيث استقرت عائلته لضمان دخول الأبناء إلى المدرسة.
ويقول الرجل بينما كان ينصب خيمة أيضا في أملاكو “لم يعد الترحال كما كان بالأمس”، موضحا أنه لا يزال محافظا على هذا النمط فقط لإرضاء والديه المسنين “اللذين يرفضان العيش في المدينة”.
ويقول عضو بلدية أملاكو إدريس سكونتي إن محافظة أملاكو الريفية كانت تضم “460 خيمة للرحل لم يبق منها اليوم سوى نحو أربعين”.
وليس المناخ هو العامل الوحيد الذي سرّع تدهور ظروف حياة الرحل. ويوضح رئيس جمعية رحّل آيت عيسى إزم موحا حداشي أن “ندرة الكلأ ترجع أيضا إلى تملّك الأراضي في المنطقة والاستثمارات الزراعية فيها”. ويضيف “هناك مستثمرون زراعيون يسيطرون على الفضاءات التي كانت ترعى فيها مواشي الرحل”.
كما يواجه الرحّل نوعا من “العداء” من طرف بعض القرويين الذين يرفضون فكرة أن يستقروا في “مناطقهم”. وهو ما يأسف له حدو أوحداش، قائلا “الأمر لم يكن دائما هكذا، بل كنا مرحبا بنا أينما حللنا”. وفي مواجهة هذه الصعوبات، لم تعد حياة الترحال تغري الشباب الذين يحلمون بالاستقرار.
وتقول هدى أوشعلي (19 عاما) التي تقيم في بيت أحد أعمامها ببلدة الريش، وتسعى لمتابعة تكوين مهني بعد مغادرتها الثانوية، إنها “تكره” الترحال، لأنها “لم تعد تتحمل رؤية والديها يعانيان ويقاتلان من أجل البقاء”. وتختم “الجيل الجديد يريد إغلاق قوس الترحال الذي يجعل الحصول على أشياء بسيطة أمرا معقدا”.

