
الثنائي المغربي بزيز وباز: فن خالد وضحكات أبدية
في تاريخ الفن المغربي خصوصاً والعربي بشكل عام، يبقى اسم الثنائي بزيز وباز محتفظاً بمكانته كأحد الأسماء الرائدة والسبّاقة في نوع فني خطير، يقل وجوده في بعض البلدان العربية، وينعدم تماماً في بعضها الآخر، وبالإضافة إلى وجوده القليل، فإن تقديمه على مثل هذه الدرجة من الإتقان الظاهرة لدى بزيز وباز، قد لا يتحقق أو يكون نادراً على أقل تقدير. فعندما كان يقف أحمد السنوسي (بزيز) إلى جوار حسين بنياز (باز) على خشبة المسرح ويمسك كل منهما بميكروفونه أمام الجمهور الهائل، كان يحدث شيئاً صادقاً وقوياً وممتعاً إلى حد كبير، وتكتمل العملية الفنية والتجربة الشعورية المرتبطة بها، لدى الفنان والمتلقي على السواء، فإن فن بزيز وباز هو من أقرب الفنون إلى الجماهير، لا لكونه يقدم على المسرح ويقترن بالتلاحم المباشر مع الناس، لكن لصلته الوثيقة بالحياة اليومية للمواطن وانغماسه في تفاصيلها. وهو فن لا يتملق السلطة، ولا يتملق الجمهور أيضاً، يلتزم بالكلمة الشريفة والقول الأمين المسؤول، والرسائل، رغم قوتها البالغة ليست فجة أو مسيئة، توقظ الجميع.
قد لا يشعر المشاهد غير المغربي عندما يتابع سكيتشات بزيز وباز، بأن المواضيع التي تتناولها هذه الاسكيتشات بعيدة عنه، أو تختلف كثيراً عما يعايشه الناس من هموم. وسيكتشف بطريقة أو بأخرى، أن المواقف التي يتم انتقادها والسخرية منها مألوفة بالنسبة له، مرّت عليه من قبل، أو لا تزال تواجهه وقائمة بالفعل كما هي على حالها، وربما تغيرت إلى الأسوأ. فمن خلال التمثيل والغناء والموسيقى والعزف والحوار الفكاهي والنكتة أحياناً، كان الثنائي بزيز وباز يعبر عن رؤيته تجاه الكثير من الأمور المهمة. ويطرح ملاحظاته الساخرة من بعض الأوضاع أو السلوكيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية والإعلامية، حيث يكون الفنان ناقداً في الوقت نفسه عندما يقوم بتقديم هذا الفن، وهو من الفنون العسيرة، التي تتطلب طريقة خاصة في التعبير، كان الثنائي بزيز وباز يقدمه بروح حرة طليقة، وبأسلوب لا يعرف التغافل، ولا مكان فيه للهزل والمزاح الفارغ. فالاسكيتشات مليئة بالأفكار التي تثير الذهن، وتحث على التأمل ومراجعة النفس، صحيح أن الضحك متنفس مهم وضروري للشعوب، وأن السخرية تلطف الألم، وقد تكون مخدراً رائعاً في بعض الأحيان، إلا أن فن الثنائي بزيز وباز، نجا من أن يجرفه هذا التيار الذي كان موجوداً في بعض بلدان العالم العربي في أزمنة معينة، من خلال فنون أخرى كالسينما والمسرح والدراما التلفزيونية.
ربما لم تكن العلاقة مثالية في جميع الأوقات بطبيعة الحال، حتى العلاقة بين أحمد السنوسي وحسين بنياز تأثرت مهنياً بدرجة أدت إلى الانفصال الفني، وإن استمرت العلاقة الإنسانية بخير حال، كما يروي كل منهما، ويؤكد على ذلك في مناسبات مختلفة.
الفكاهة الذكية
تصدر الفكاهة عن هذا الثنائي عفوية خالصة، بينما تحمل اللمسات السريعة الحادة والأقوال الذكية والضربات اللاذعة، التي تدل على القوة في مواجهة الواقع وعدم الذهاب إلى مناطق الإنكار والتعامي عن الأشياء الواضحة والظاهرة. لهذا لا يكون الضحك عابثاً، ويضيء العقل وينير الإحساس، ويتميز أسلوب الثنائي بزيز وباز بالإيقاع السريع والاختصار، وعدم الإطالة والتكرار، والإلحاح على إثارة الضحك بشكل بائس لا رجاء منه، بل إن من لا يرغب في الضحك سيضحك رغماً عنه، وستنهار مقاومته عند لحظة معينة. ويشير ضحك الجمهور عادة بمستوياته المختلفة، إلى درجات قوة وحساسية ما يطرحه الثنائي من مواضيع، وكذلك يعتمد الأداء على العبارات المسرحية القصيرة المركزة، والاقتصاد في الحركة والإيماءة والإشارة، والإلقاء الجاد الذي يخلق المزيد من الضحك والتأثير، ولا وجود للاستظراف المصطنع وافتعال خفة الظل، فكل شيء يصدر عن موهبة خالصة ووعي عميق بأهمية هذا الفن، واحترام للنفس وللجمهور على حد سواء.
كان فن بزيز وباز يعرض في القصر الملكي، كما يعرض على المسارح أمام الجمهور الهائل، ويروي الفنان حسين بنياز في أحد حواراته الإذاعية، أن الحسن الثاني كان يحب أن يطلع على ما يقدمه الثنائي، وأنه كان يمنحهما الحرية الكاملة لقول كل شيء داخل القصر، ثم يداعبهما قائلاً: «راه إيلا خرجتي برا… راه منعرفكش». ربما لم تكن العلاقة مثالية في جميع الأوقات بطبيعة الحال، حتى العلاقة بين أحمد السنوسي وحسين بنياز تأثرت مهنياً بدرجة أدت إلى الانفصال الفني، وإن استمرت العلاقة الإنسانية بخير حال، كما يروي كل منهما، ويؤكد على ذلك في مناسبات مختلفة. وقد ذهب كل منهما يقدم عروضه المسرحية منفرداً، داخل المغرب وخارجه في الكثير من البلدان الأوروبية.
وتحديداً أحمد السنوسي الذي اتجه نحو أوروبا بقوة، ربما بعد منع أو صدام ما مع السلطة في المغرب، لكنه على كل حال يستطيع أن يعبر عن آرائه دائماً بلا خطر يهدد حياته، كما في بعض البلدان العربية الأخرى، وإن تعرض لبعض التضييق والمضايقات. ولا يزال قادراً على تنفيذ كلماته التي قالها يوماً أمام الجمهور على مسرح محمد الخامس، في أحد عروض بزيز وباز الضخمة، التي افتتحها ببيان فني وسياسي قوي ومطول إلى حد ما. وكانت كلماته تلك تقول: «لا عذر لأي منا وكلنا نتحمل المسؤولية، لا عذر لأي منا بأن يترك كلامه داخل صدره، حتى إن أدى به اختياره وسط ضيق بعض الصدور به إلى منعه من الصدور».
العدالة والحرية الإنسانية
فلم يصمت أحمد السنوسي ولم يتخل عن اختياره، ولم يحبس كلامه داخل صدره، ويجد دائماً الأماكن البديلة والوسائل الأخرى التي يستطيع الظهور من خلالها، دون أن يتنازل أو أن يخفف من حدته ويغادر تلقائيته، فهو ثائر بطبعه، تجري الدماء الحارة في عروقه، ومهموم حتى النخاع بقضايا العدالة والحرية والإنسانية. وكذلك هو حسين بنياز الذي شاركه الدفاع عن هذه الأفكار لسنوات طويلة، لكن لبنياز أسلوبه الخاص في التعبير والتعامل مع الواقع أيضاً، ومن يتأمل أداءه يجد أنه يستطيع أن يكون ساخراً لاذعاً إلى أقصى درجة، دون أن يبدو حاداً أو صدامياً، وهكذا كان أسلوبه سواء في عروضه الفردية، أو في سكيتشات بزيز وباز الثنائية، التي كانت متوازنة تماماً بأسلوب كل منهما الذي يكمل الآخر، بشكل جعل نجاح أعمالهما معاً لا يزال مستمراً حتى بعد التوقف عن تقديم أعمال جديدة. فقد كان حسن التواصل بين أحمد السنوسي وحسين بنياز من أهم نقاط القوة لديهما، التي تحقق الاستجابة الفورية، والتفاعل القوي السريع، وتدفع الجمهور إلى أن يشتبك معهما على الفور وتتعإلى ضحكاته.
كان أحمد السنوسي يغني، وكذلك يغني حسين بنياز ويعزف على العود أحياناً، وكان يعتمد فنهما على عدة عناصر، منها اختيار الموضوع ثم الكتابة التي كانت مشتركة بينهما. والأداء الذي جعل كلماتهما الملفوظة تترك أثراً في المتلقي لم ينته، وتخلق معه علاقة لم تنقطع، وكان السنوسي يميل إلى التعبير بجسده بدرجة أكبر من بنياز، بينما يتسم الأداء الحركي لبنياز بالهدوء والاعتماد على تعبيرات الوجه والصوت.
لم يغادر الثنائي بزيز وباز اللهجة المغربية إلا مرة واحدة تقريباً، وكان توجههما نحو اللهجة المصرية، في سكيتش قصير قدما فيه حواراً مرتجلاً كأنه جزء من فيلم مصري.
وكان لكل منهما أيضاً طريقته الخاصة في التعبير الصوتي وطبيعة الإلقاء، والإيقاع وتنغيم الكلمات بطريقة ساخرة، والقفلات التي تحقق هدفها مباشرة في إثارة الضحك، وكانت الموسيقى هي الرفيق الدائم لهما خلال رحلتهما الفنية، فكانا يقدمان أغانيهما الخاصة، أو يؤلفان الكلمات على بعض الألحان المغربية المشهورة، كلحن مرسول الحب لعبد الوهاب الدكالي على سبيل المثال، الذي حولاه إلى أغنية «نائب الدرب» التي جاءت في سكيتش يحمل العنوان نفسه، يتناول بالسخرية اللاذعة بعض نواب البرلمان، الذين يخونون ثقة الشعب فيهم، ويتنصلون من واجباتهم ويتنكرون للالتزامات المفروضة عليهم. وعن هذا يغني الثنائي قائلاً: «نائب الدرب، فين مشيتي؟ وفين غبرتي علينا؟ ما تكون نسيتينا ونكرتينا وفين الوعود؟ ما زال الدرب خصو مجهود حال الضو في زناقينا، وقت الانتخاب كنتي موجود، وقلتي لينا كل شي موجود، كل شي تاق بيك وصوتنا، تيقنا فيك سوطتينا». ومن الأغنيات الجميلة أيضاً التي تضمنها سكيتش الكاميرا شاعلة، أغنية «برق ما تقشع» التي يقول مطلعها: «برق ما تقشع برق ما تقشع، قضى حاجة وصداق لفوق، برق ما تقشع برق ما تقشع، خوا صندوق عمر صندوق، برق ما تقشع برق ما تقشع، كرى حنكه ولى لفوق، واش هاد الشي ينفع؟
لم يغادر الثنائي بزيز وباز اللهجة المغربية إلا مرة واحدة تقريباً، وكان توجههما نحو اللهجة المصرية، في سكيتش قصير قدما فيه حواراً مرتجلاً كأنه جزء من فيلم مصري. وحاولا التحدث باللهجة المصرية قدر المستطاع، وتم التركيز بشكل واضح على العصبية الزائدة أثناء الكلام، والصوت المرتفع الصاخب، والميل إلى العنف، على الرغم من أنهما قدما هذا الاسكيتش في الثمانينيات على الأرجح، عندما كان الوضع في مصر لا يزال أهدأ كثيراً، ولم يكن الأمر قد وصل بعد إلى تلك الدرجة الحالية من السوء، حيث تحول فن التمثيل إلى فن التبريق والزعيق، وصار الهدف الأسمى لهذا الفن المستحدث وأكبر غاياته هو تحويل البشر إلى وحوش، والقضاء على ما تبقى من مواطن الإنسانية لديهم. وتركيز الثنائي على رفع الصوت والصخب والكلمات العنيفة، هو في حقيقة الأمر انتقاد لمثل هذه الأفعال والأساليب الأدائية، من خلال محاكاتها بشكل ساخر، يلفت النظر إليها، ويسلط عليها الضوء، الذي يُظهر الخلل ويخلق رؤية مغايرة لدى المشاهد، ويعتمد الارتجال بينهما في هذا الاسكيتش على التصاعد الكلامي، وعلى أن يسبق كل منهما الآخر في الارتفاع بصوته ودرجة انفعاله وعصبيته، وفي أدائه ذهب أحمد السنوسي بعيداً وارتفع بصوته إلى درجة كبيرة، وهو يؤدي للحظات قصيرة دور عصمت، الذي يريد أن يقتل شوقي لأنه خطب امرأته.
نقد الفن
وكما تضمنت سكيتشات بزيز وباز انتقاداً للفن، تضمنت أيضاً انتقاداً للإعلام، بل إن التركيز على الإعلام كان أكبر، وكانت السخرية منه أكثر حدة وإظهاراً للمفارقات الخطيرة، والتعجب من انفصال الإعلام عن الهموم الحقيقية للشعوب، وعدم تعبيره عنهم، وأن الشعوب لا تجد نفسها في ذلك الإعلام، حتى في نشرات الأخبار التي تتجاهل الأخبار المهمة التي تمس المواطن، وتقدم له بعض الأخبار من دول أخرى، ربما تكون مجهولة بالنسبة له. ولا علاقة لمعظم ما تقدمه هذه النشرات بانشغالاته الحقيقية، وعلى العكس تماماً من هذا النوع من الإعلام الموجود في بعض بلداننا العربية، كان يعمل الثنائي من خلال فن مغاير على تناول أدق الأمور الحيوية التي يعرفها جيداً أغلب الجمهور، وتلازمه في تفاصيل حياته.
يعد سكيتش «الكاميرا شاعلة» من أشهر سكيتشات بزيز وباز وأجملها وألطفها أيضاً، والأكثر قرباً من الجمهور غير المغربي، بسخريته القوية من ذلك التناقض الموجود لدينا في بعض أوطاننا العربية، بين الصورة على أرض الواقع، والصورة التي يتم تصديرها عبر وسائل الإعلام.
ورغم اتصال بزيز وباز أو ارتباط الصورة الذهنية عنهما لدى البعض بالسياسة، نظراً لما كانا يقدمانه من انتقادات لاذعة، سواء كانت انتقادات سياسية خالصة، أو سياسية بالمعنى الواسع للسياسة الذي يشمل ويمس جميع الجوانب الحياتية، ويطال مصالح المواطن بالنفع أو بالضرر، إلا أنه لا يمكن وصف ما كان يقدمه الثنائي بالفعل السياسي، فهو فعل فني أولاً وأخيراً، ويستمد قيمته الكبرى من جودته الفنية وتقنياته الماهرة، وقوة الإبداع الأصيل، لهذا لم يكن فنهما مجرد فقاعة وقتية تتلاشى سريعاً، أو أداة في يد أحد استخدمها لفترة ثم ألقى بها بعيداً، أو نموذجاً مزيفاً خدع الجماهير لبعض الوقت ثم خسرهم إلى الأبد بعد أن انكشف أمامهم. ولهذا ظل فنهما حياً بعد مرور كل هذه السنوات يلامس هموماً عربية متأصلة، ومستمرة ولا تزال تتفاقم، وحتى إن زالت هذه الهموم يوماً، فسوف تبقى الضحكات التي خلقها بزيز وباز من وحيها خالدة.
من التعليم إلى الصحة إلى فرص العمل، والأسعار والحرية السياسية، والعدالة والفساد والمساواة، ومشكلات الداخل ومشكلات الاغتراب، والعلاقة مع الغرب واللغات الأخرى، وتفضيل الأجنبي وإلى ما هنالك من مواضيع، كانت تتنقل سكيتشات بزيز وباز، ورغم المسافة الزمنية والمكانية التي تفصل البعض من المشاهدين العرب عن هذه الاسكيتشات، إلا أن البعض أيضاً يعرف جيداً ذلك الطبيب الذي يذهب إليه بمرض واحد ويخرج بمرض آخر مضاعف بسبب استغلاله المادي للمريض ولمعاناته، ويحفظ عن ظهر قلب تفاصيل الفساد، وكل هذه الأمور التي تدمر الإنسان، وتقوض معنى الحياة في نفسه.
يعد سكيتش «الكاميرا شاعلة» من أشهر سكيتشات بزيز وباز وأجملها وألطفها أيضاً، والأكثر قرباً من الجمهور غير المغربي، بسخريته القوية من ذلك التناقض الموجود لدينا في بعض أوطاننا العربية، بين الصورة على أرض الواقع، والصورة التي يتم تصديرها عبر وسائل الإعلام. فعندما تكون الكاميرا شاعلة، تكون الأسعار رخيصة، وسلة الخضروات غير فارغة، والكباش معقولة الأثمان، وكذلك الأسماك، ويكون المواطن راضياً عن كل شيء، حتى عن السهرات التلفزيونية التي يفهمها جيداً، وإن كانت عبارة عن فيلم أمريكي تصاحبه ترجمة بالفرنسية مكتوبة أسفل الشاشة. في الاسكيتش يلعب حسين بنياز دور المذيع الذي يوجه الأسئلة إلى مواطن عابر، يلعب دوره أحمد السنوسي، بأداء يجمع بين التماشي مع الواقع الذي يفهمه جيداً، ويدركه تماماً، وتماشيه معه ليس استسلاما بقدر ما هو يأس ممزوج بالسخرية العميقة، فهو قبل أن يجيب على أي سؤال يوجهه إليه المذيع، يسأله أولاً: «الكاميرا شاعلة؟ باقا شاعلة؟» ومن أجمل ما يحدث في هذا الاسكيتش هو وجود حوار كلامي واضح بينهما، بالإضافة إلى حوار آخر بصري غير منطوق، وتكرار سؤال الكاميرا شاعلة بتنغيم معين من أحمد السنوسي يحمل الكثير من المعاني، وكذلك رد حسين بنياز عندما يجيبه قائلاً: شاعلة.
كاتبة مصرية