الصين… مدى الحياة
كلنا يتذكر الشعار ما قبل الثوري: «لا رئاسة مدى الحياة» كلنا يتذكر من نطقه وفي أي ظروف ولأي سبب.. وقد تحقق السيناريو، على الرغم من ناطقه، لكن يمكن أيضا نقل السيناريو إلى سياق آخر. هذا السياق يمكن تسميته بـ»رئاسة العالم» قد يقول قائل: إنه سيناريو خيالي. سيناريو خيالي يعاكس بالتمام والكمال نظرية «العالم متعدد الأقطاب» الذي بات منذ وقت ليس بالقصير، أكثر من نظرية.
«رئاسة العالم» مجرد العبارة قد تبدو غريبة، ليست مصطلحا، ليست مفهوما، لن يستخدمها أحد في الجيوسياسة، ربما تصلح في عمل من علم الخيال، قد يقول قائل أيضا.. لا أكثر. إلا أن التاريخ لم يبعد نظرية «رئاسة العالم» أبدا، وفي موضوع الصين تحديدا، ومنذ أزيد من نصف قرن. ففي عام 1973 ألف المفكر الفرنسي آلان بيرفيت كتابا اشتهر في أيامه يحمل عنوان: «عندما تنهص الصين.. سوف يرتعد العالم».
في الحرب على أوكرانيا، تمسك الصين العصا من المنتصف، كعهدنا بها في مواقف مماثلة
هنا، لم يكن مجرد بروز الصين كقوة هو الرهان، بل رصد موقعها كقوة عظمى أصلا. كان العالم متعدد الأقطاب قد انطلق قبل أن يدخل أدبيات المؤرخين، ومع ذلك، كنا لا نزال نبني حساباتنا على ثنائية الأقطاب كتركة للحرب الباردة امتداداتها مستمرة، ولم نكن نتصور هذه الاستمرارية «إلى حين…» لكن عندما برز مفهوم «تعددية الأقطاب» الكثير منا رفض، عن وعي أو عن غير وعي – واللاوعي كان هنا حاضرا بقوة، تكريس هذا المفهوم لشدة انغراز المفهوم الآخر، المقابل، الذي كتب له أن يعمر طويلا، مفهوم ثنائية الأقطاب. لم تساعد الحرب في أوكرانيا على اقتلاع الهاجس، ولعل أبرز العوامل المفسرة لهذا الواقع بقاء واستمرارية مفهوم آخر ثالث ظل لاصيقا مصاحبا لثنائية الأقطاب هو: توازن الرعب. لكن الرعب لم يكن حصرا على معسكر، فحضور الصين على الساحة الدولية، بات أمرا واقعا منذ عهد الامبراطوريات، وكذلك اليابان وإن يكن على درجة مختلفة. لقد كرست الصين التنافسية الاقتصادية على المدى الطويل، لكن ليس التنافسية الاقتصادية فقط، لقد كرست الصين التنافسية الجيوستراتيجية أيضا. إلا أن هذه الأخيرة غالبا ما تشكل حلقة تكاد تغيب عن سلسلة الثوابت الواجب وضعها في الحسبان، عندما تعود التوترات إلى واجهة العلاقات الدولية. السبب معروف: ما فتئت الصين تنشط في مجال الدبلوماسية الصامتة، ومن يخوض في الدبلوماسية الصامتة، من دون فرقعة ولا صخب، يحيط نفسه بهالة من «القداسة» لا تني تلف بالأجواء المتقلبة، وهذا ما يحدث حاليا. في الحرب على أوكرانيا، تمسك الصين العصا من المنتصف، كعهدنا بها في مواقف مماثلة: دعوة إلى التحفظ، لكن استئناف العلاقات التجارية مع روسيا، تفهم لموقف المجتمع الدولي، لكن عدم مسايرته في فرض العقوبات.. لكن ثمة مسألة أخرى لا يمكن تفويتها، وقد بادرت وسائل الإعلام إلى التذكير بها هذه الأيام، إنها عملية التجسس واسعة النطاق التي باتت الصين منخرطة فيها.. منذ الأزل، لكن منذ الأزل أيضا ينأى الإعلام عن التواصل بخصوصها بطريقة تتزايد على إثرها التساؤلات. فقد علمنا قبل ساعات أن الصين بصدد التجسس على 25 قمرا صناعيا أمريكيا. الخطوة، نعيد ونكرر، ليست جديدة. لكن ما هو جديد هو تمركز ما بقي خفيا حتى الآن في قلب الدبلوماسية الدولية.
لو رجعنا إلى الصراع الذي نحن بصدده، كثيرا ما نسمع ترويج فكرة أن «بعد أوكرانيا، لن يتوقف الروس..» وهناك من يذهب حتى إلى أن قدومهم إلى باريس مرتقب، لكن سيناريو من هذا النوع لن يحدث، ومن يروج له يعلم جيدا أنه لن يحدث، لكن سبب عدم الحدوث أقل معرفة، فموضوع أن تكون روسيا محاطة بقوى مجاورة نووية رادعة شيء، ومساهمة الولايات المتحدة في الردع ذاته شيء آخر أيضا… فسيكون من سوء التقدير تجاهل أن الصين تظل أكثر القوى ردعا في المشهد، فقد تخطت دبلوماسيتها الصامتة الأبدية عتبة الدبلوماسية الناعمة منذ زمان.
بيير لوي ريمون
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي