المرابطون وعشرات الآلاف من المصلين استطاعوا منع ترسيم التقسيم الزماني والمكاني وتقديم القرابين في الأقصى
ينظر محللون إلى أن ما عاشته المناطق الفلسطينية عامة ومدينة القدس خاصة من أحداث يمكن أن يطلق عليه “هبة 2022″، وهي هبة ترجمتها سلسلة من الأحداث التي ما زالت دائرة حتى اللحظة ولو بدا أنها خفتت، وهي جهد نضالي شعبي امتدادا لخمس مراحل من المواجهة أو الهبات على المسجد الأقصى الذي أصبح ينظر إليه على أنه النقطة المركزية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ورغم الهدوء الحذر بعد قرار الحكومة الإسرائيلية اليمينية بوقف الاقتحامات الاحتلالية للمسجد الأقصى منذ يوم الجمعة الثالثة من شهر رمضان وحتى نهايته، إلا أن مراقبين وباحثين يرون في القرار الإسرائيلي ترجمة حرفية لردع الشارع الفلسطيني والمقاومة في قطاع غزة.
وأمام الأحداث وموجة التصعيد الأخيرة تطرح أسئلة الشارع الفلسطيني بقوة من نوع: ما الذي حققه الفلسطينيون من هذه المواجهة؟ وماذا أفشلوا من السياسات التهويدية التي تمارس في المسجد الأقصى؟
الكاتب المقدسي راسم عبيدات يرى أن الممارسات الاحتلالية بحق القدس تعتبر مؤشرات إلى أن دولة الاحتلال تستمر في معركة السيادة والسيطرة على المدينة المقدسة لتكريس مفهوم “العاصمة الأبدية” لدولتها وهي تترجم اعتراف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بإن القدس عاصمة لها. ويتابع أنه من دون تمتين السيطرة على المسجد الأقصى لن يصبح اعتراف ترامب حقيقة، وهو أمر يتم مع وجود خطط ممنهجة ومدروسة لتكريس سيادتها على المسجد الأقصى.
ويشدد عبيدات على أن القدس تشهد تسارعا في عمليات التهويد للمسجد الأقصى والسعي من أجل تغيير طابعه الديني والقانوني والتاريخي، وتكريس التقسيمين الزماني والمكاني.
ويؤكد أن جل الجهد الاحتلالي اليوم يهدف إلى محاولة نزع القدسية عن الساحات للعامة للأقصى، والابقاء على المسجد القبلي باعتباره المسجد الأقصى.
محاولة لضرب الإرادة الشعبية
ويقدم الباحث المقدسي زياد ابحيص تحليلا للالتفاف الشعبي حول الأقصى فيعتبر أن الجمعة الثانية من رمضان شهدت حالة من شد الرحال للدفاع عن الأقصى رغم الفعل الاحتلالي فجر الجمعة الثانية حيث أراد أن يوجه رسالة لضرب الإرادة الشعبية في مهدها. ويتابع: “لقد كان الاحتلال مستعدا بخطة وضعت مسبقا للعمل على تفريغ الأقصى من المرابطين وقد استخدم لتلك الخطة من القوة أكثر مما استخدم في اقتحام 28 رمضان من عام 2021”.
القدس خلقت حالة نضالية من جديد عنوانها الأقصى
يتابع بحيص: “كي نكون واضحين أمام أنفسنا فإن ما حققناه فلسطينيا هو منع الاستفراد بالأقصى وليس الانتصار له، والدليل على ذلك أنه في أيام “الفصح العبري” كان يتواجد في المسجد بضع مئات ولم يزد العدد عن 2000 معتكف ومرابط وهذه أعداد قليلة مقارنة بالأعداد التي تصلي التراويح والفجر وهي التي كانت تفوق 30 ألف، وهو أمر جاء مع انتزاع باب الاعتكاف في معركة مع الأوقاف الإسلامية التي لم تكن ترحب بذلك بداية”.
ويشير ابحيص الى أن ما حصل مساء الأربعاء الماضي من إفشال لمسيرة الأعلام عبر التهديد بالذهاب بموجة تصعيد مع غزة، وحالة التصدي للاحتلال مساء الأربعاء وفجر الخميس رغم محاولات الاحتلال إفشال تحصن الشباب بالمسجد حيث قاموا بإغلاق مسارات المقتحمين والتكبير المتواصل والتواجد الدائم وهو عمليا ما أنقذ الموقف.
وشدد على أنه لولا ركائز المواجهة هذه فإن الاحتلال كان سيسير باتجاه خطته في تقسيم المسجد الأقصى باعتباره مقدسا إسلاميا وهيكلا معا، أي مسجد وهيكل في الوقت نفسه، وهو ما يسعى الاحتلال إلى تحقيقه لكن الأحداث في اللحظات الأخيرة هي من منعت ذلك وأحبطت المخططات الاحتلالية.
يقرأ ابحيص سلوك الاحتلال في فجر الجمعة الثالثة بأنه محاولة انتقام ومظهر عدم تسليم بما جرى. “رسالة الاحتلال مفادها أن مظهر وجودنا بالمشهد الشعبي لن يحبطه عن مخططاته وها هو يرسل رسالة معاكسة التي قد تأخذ المشهد للتصعيد لآخر رمضان”.
عضو مركز السياسات ودراسات حل الصراع د. أيمن يوسف يؤكد أن ما خرجنا منه حتى اللحظة على الأقل هو أن القدس خلقت حالة نضالية من جديد عنوانها الأقصى، وهو أمر تم بأقل قدر من التسييس، حيث استمر الموضوع نضاليا شعبيا كاملا رغم بعض مظاهر التسييس التي ظهرت مؤخرا عبر رفع رايات بعض الأحزاب في ساحات المسجد الأقصى.
وأضاف يوسف، وهو أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العربية الأمريكية، أن ما شهدناه في الأيام العشرين الماضية رسم قواعد اشتباك جديدة، عنوانها القدس التي تعتبر مدينة تمتلك القدرة على أن تحول الوطن كله إلى كتلة بشرية صلبة.
ويتفق يوسف مع تحليل أن الإجراءات الاحتلالية بحق الأقصى تمكنت من تقليص عدد المصلين في المسجد الأقصى حيث كانت الأعداد تصل إلى نصف مليون مصل.
ويشير يوسف الى أنه، ولربما يحدث لأول مرة، استقدام هذا العدد الكبير جدا من الشرطة الإسرائيلية متنوعة الوحدات التي تشارك في عملية اقتحام المسجد الأقصى، وتمارس تدنيسا للمسجد القبلي بهذا الكم الكبير والضخم من أعداد المقتحمين.
وحول ماذا حققت هذه المواجهة يجيب الباحث ابحيص أن هذه الجولة لن تكون قصيرة، وهي ما زالت مفتوحة بدليل ما جرى يوم الجمعة وهو أمر يزيد من إمكانية حدوث تصعيد واستمرار في المواجهة. ويؤكد أن المشكلة ليست بالاقتحامات اليومية بل بالسياق الإجمالي لها، حيث هي فعل إحلالي لإزالة الأقصى من الوجود وتأسيس الهيكل مكانه.
ويحلل ابحيص الفعل الإسرائيلي بالقول إنه وفي طريق تحقيق حلم الهيكل سلك الاحتلال ثلاثة مسارات لتحقيق ذلك، الأول: التقسيم الزماني الذي تمت مواجهته من خلال هبات 2014 و2015 و2017. المسار الثاني يتمثل بالتقسيم المكاني، وكان الهدف الاحتلالي السيطرة على منطقة باب الرحمة الذي تمت استعادته من خلال هبة باب الرحمة حيث عاد بوصفه مكانا إسلاميا. أما المسار الثالث فهو عبارة عن التأسيس المعنوي للهيكل، أي التعامل مع المسجد باعتباره هيكلا وهو جوهر المواجهة الحالية، وتتلخص بخطة تتعامل مع الأقصى في ظل عجزهم عن الوصول للشكل النهائي من التقسيم الذي كان يتطلعون إليه وهو المناصفة بالأيام والأعياد، بصفته هيكلا.
تعايش مع التصعيد
ويرى ابحيص أن ما دفعهم للقفز للأمام والذهاب للخطة الثالثة محاولة التعامل مع الأقصي كهيكل من الزاوية وهذا سر الإصرار على الاقتحام والصلوات وطرح فكرة القربان..الخ. هذا كله كان جزءا من مشروع إجمالي كانت الهبات الشعبية في أشكالها وتواليها زمنيا حيث يمكن رصد خمس هبات، وبين كل هبة وأخرى 17 شهر أما الوصول إلى الهبة الكبيرة فهي مسألة توقيت.
ويشدد المحلل السياسي هامي المصري على أن هناك تفاهما ضمنيا على التعايش مع التصعيد الحالي، والمسؤول عنه، أساسا، سلطات الاحتلال التي تريد الاستمرار في فرض التقسيم الزماني الذي فرضته منذ سنوات، مع إصرار هذه المرة على إبعاد المعتكفين عند اقتحام اليهود للأقصى، وصولا إلى التقسيم المكاني في الأقصى. ويتابع: “نعم، لقد استطاع المرابطون وعشرات الآلاف من المصلين أن يمنعوا ترسيم التقسيم الزماني والمكاني وتقديم القرابين، ومع ذلك من المبكر إعلان الانتصار الذي لن يتحقق إلا بوضع هدف إفشال التقسيم الزماني والمكاني على رأس الأهداف، وتجنيد كل الجهود والنضالات في مختلف الأماكن لتحقيقه”.
ويطالب المصري بدور أكبر للفصائل الفلسطينية بما فيها حركة فتح التي يرى أنها في قلب المواجهة وعليها مهمة تحويل الهبة إلى مواجهة شاملة ضمن استراتيجية وطنية.
ودعا الى ضرورة العمل على مراكمة القوة للانتقال من الدفاع إلى الهجوم، وصولا إلى تحقيق الأهداف الرئيسية للقضية الوطنية.
ويؤكد أن اقتحام قوات الاحتلال للمسجد الأقصى في للجمعة الثالثة ورغم انقضاء الفصح العبري، ورغم عدم تخصيص الجمع المقبلة لاقتحامات المستوطنين يؤكد أن مشكلة الاحتلال تكمن في الحضور الإسلامي بحد ذاته، وأنها تبحث عبر موجات التوحش والقمع عن كسر الالتفاف الفلسطيني حوله وتقليل أعداد المصلين فيه.
ويرى الباحث ابحيص أن الفعل الاحتلالي يدفع بتعجيل معركة الأقصى لتصبح معركة مركزية، وهي معركة حسب الكاتب المقدسي عبيدات، الوحيدة القادرة على توحيد كل الساحات الفلسطينية وهو ما لا يرجوه الاحتلال ولا يتمناه.