ثقافة و فنون

الوهم الأمريكي في رواية «حراج فلوريدا» للبحريني أحمد الدوسري

 

تختتم رواية «حراج فلوريدا» للروائي البحريني أحمد الدوسري بخلاصة: «لم يكن حلما ذلك الذي انقضى.. بل كابوسا.. وهما.. ومضى». وهي عبارة تلخص حصيلة سنوات قضاها عبدالله الكويتي في فلوريدا، مثل عشرات الملايين الذين هاجروا إلى أمريكا؛ ظنا منهم أنها أرض الأحلام، والفرص الذهبية، والمستقبل المضمون، لكنهم اصطدموا بالوهم، بالوحش الأمريكي، فلا يمكن أن يعيش المرء هناك إلا وهو يجري ليل نهار، يفتقر للأمن والطمأنينة، يتلبسه الخوف من القتل أو السرقة أو النصب والاحتيال، وسط دوامة كابوسية لا تهدأ، وكل يوم جديد، هو نجاة إلى حين، لكنه برسم الموت الذي لا يدري من أن يأتيه، ومتى، وأين؟

الحلم والوهم

فرق كبير بين الحلم والوهم؛ فالحلم يُبنى على أسس ومقومات، بينما الوهم سراب. الحلم يحتاج إلى جهد وعزيمة لتحقيقه، والوهم يبقى معلقا ينتظر صاحبه معجزة من السماء، ومن المؤلم أن لا نصيب للعربي من الحلم أو الوهم «لا بد أن يعيش الأمريكي إما على حلم أو وهم، لا يغمض عينيه دون واحد منهما. كما لا بد للعربي أن يعيش في هم أو غم» وأن يبقى شقيا بائسا أينما حلّ؛ لأن «الأقدار حولت حياة الكثيرين إلى جحيم لا يُطاق. صعبت عليهم الحياة، حتى لكأن التعاسة قد صممت على مقاس هؤلاء الناس الذين لا يعرفون ماذا عليهم أن يفعلوا؛ هل عليهم أن يموتوا؟ لماذا لا يطلقون عليهم النار وكفى؟ هل هم زائدون في هذه الحياة؟ لماذا لا يتخلصون منهم بالقتل الجماعي؟ دفعوا بهم إلى حافة الانتحار، ثم قالوا لهم بأن الانتحار سيؤدي بهم إلى الجحيم. منعوا عنهم الموت كما منعوا عنهم الحياة. وبدلا من جحيم الآخرة الخالد اختاروا أن يعيشوا جحيم الحياة الفانية. وها هو ذا في سماوات أمريكا بانتظار الفردوس الأعلى». ولذا فإن كل من هاجر إلى أمريكا، فعل ذلك لأنه شعر بأنه بلا وطن، وأي وطن هذا الذي يُرغم أبناءه على أن يبحثوا عن لقمة عيشهم خارجه. وأمريكا مفترسة «كالهوة السحيقة الماحقة، تمحو وطنك وتضع نفسها مكانه».
تتناول الرواية أوضاع وظروف المهاجرين العرب في العقد الأخير من القرن العشرين، وتركز على شخوصها من دول الخليج العربي، في مفارقة لافتة تثير ألف سؤال وسؤال؛ فإذا كان المواطن الخليجي يضطر للهجرة بحثا عن فرص أفضل، فما حال مواطني الدول العربية الأخرى، التي ترزح تحت وطأة البطالة والفقر وغياب العدالة الاجتماعية وانسداد الأفق؟

برسم الموت

بدأت الحياة في أمريكا كمنفى للمجرمين الأوروبيين، هؤلاء الذين فرضوا رؤيتهم وقوانينهم على الحياة هناك، حيث لا حياة لك إلا أن تكون فردا في عصابة أو تحت حماية عصابة، وإلا فستكون مستهدفا من عصابة، ولذلك فالعصابات قوة محترمة هناك ومهابة من الجميع، وتضرب الرواية الكوبيين مثالا، فقد كانوا مستضعفين، لكنهم نظموا أنفسهم في عصابات، وأصبحوا قوة يُخشى منهم، وفرضوا ثقافتهم ولغتهم وعاداتهم في ولاية ميامي التي لا تكاد تسمع فيها كلمة إنكليزية، بينما العرب في المقابل، لا يربطهم رابط، ولا وجود لعصابات عربية، ولذا فهم ملطشة ومطمع للجميع هناك. نشأت أمريكا على يد القتلة والمجرمين والمغامرين الذين مارسوا تصفية الهنود الحمر، ومن ثم أشبعوا ساديتهم باستعباد السود، بل يكفي أن تكون أسود لتقتل، وما زال القتل ساريا، لكنه اليوم على يد الشرطة والمؤسسات، وأمريكا في المجمل «بلد الأعاجيب، حيث يجب أن ينجو الإنسان بأعجوبة ليروي، أو أن يموت ولن يروي أحد عنه شيئا، الأفضل أن يروي بنفسه كيف نجا بأعجوبة، لا وقت لدى الآخرين لرواية حكاية موته. الحياة والموت هنا أحداث عادية جدا». وتصف الرواية حقيقة القيم الأمريكية «أمريكا تم تجميعها من نفايات عدة، تم تجميع أخلاقها وقيمها وأحلامها. أمريكا أكبر كارثة حدثت لهذا العالم.. أكبر مصيبة حدثت للبشرية». صحيح أن «أمريكا هي بلد الأحلام، لكنها أيضا بلد كل الشرور في هذا العالم» الموت فيها سهل جدا، أمر عادي، خبر عابر، والناس فيها «يضحكون ويشتمون ويقتلون» ومن يمتلك مسدسا، يمتلك الأمل لتأجيل الموت قليلا، وهو لكي يعيش لا بد أن يكون في حالة دفاع عن النفس ليل نهار، «ولا يكفي أن تكون مع القانون، لا بد أن تكون أيضا ضد القانون» ـ والمفارقة أن الناس في أمريكا يجبرون على أن «يعترفوا أن للحياة معنى، بينما هي بلا معنى… فليس للحياة معنى إذا كان القتل يهددك صباح مساء».

معظم الذين يهاجرون إلى أمريكا يهدفون إلى جمع المال، والكل يلهث وراءه ليصطاد أكبر قدر ممكن، و«الجشع سيد الموقف.. من لم يكن جشعا فلن ينجح… والزهد لا محل له في أمريكا» وكل شيء له ثمن، ولا شيء بالمجان.

الوحدة والعزلة

أمريكا، أكبر منفى في التاريخ، فالكل فيها منفي بإرادته أو مرغما، ولذا فهي ملتقى الغرباء من كل أصقاع الأرض، الكل فيها «غريب ينظر إلى غرباء طوال اليوم» وقدر الغريب أن يشعر بالوحدة، فهو غالبا يعيش في عزلة، وإن كان يسكن أو يخالط آخرين، لأن أمريكا «بلد العزلة بامتياز» ليس للمهاجرين فقط، بل للجميع، فالكل مهاجر أساسا. والغريب أن كل من يعيش في أمريكا يعتاد الوحدة والعزلة، فلا يأبه بغيره، خاصة خارج أمريكا، فمعظم الناس هناك لا يعرفون شيئا عن العالم الخارجي، إلا إذا كانت لهم مصلحة؛ لأن «العزلة هنا أسلوب حياة.. والوحدة نهائية وهي مركز الوجود يدعمها القانون.. والعلاقات العابرة جزء من هوية أمريكا»؛ فالكل مشغول بذاته وحلمه أو وهمه، بغمه أو همه، ومن النادر والمستغرب «أن يأتي أحدهم ويطرق بابك فقط لكي يتفقدك» ولذا فإن «الإنسان هنا يعتبر الثرثرة فقط بحد ذاتها حاجة عاطفية كالماء والهواء» ولا وجود للثقة، ولا محل لها في العلاقات أو المعاملات، لانه «إذا صارت عندك ثقة بالناس فستتحول إما إلى مجرم أو قتيل».

المال والأعمال

معظم الذين يهاجرون إلى أمريكا يهدفون إلى جمع المال، والكل يلهث وراءه ليصطاد أكبر قدر ممكن، و«الجشع سيد الموقف.. من لم يكن جشعا فلن ينجح… والزهد لا محل له في أمريكا» وكل شيء له ثمن، ولا شيء بالمجان. والأدهى من ذلك «أن كل من عليها يعمل فري لانسر لنفسه… أولهم الرئيس! أمريكا أكبر فري لانسر في العالم». وفي أمريكا، يجب أن تعمل وتعمل وتلهث ليل نهار لتعيش؛ فهي أكبر مجتمع استهلاكي في العالم، وأصحاب الأموال هم الحاكمون والمسيطرون في الغابة الأمريكية وتوابعها، وما يعطونه بيد يستردونه بعشرين يد. ويتساءل عبدالله: «هل هذه هي أمريكا؟ شعر بأنه قد دخل أكبر مصيدة فئران في العالم، مصيدة غشاشين». وهذا لا يعني أن البعض لم ينجح ويكبر ويجمع الملايين، و«لكنه نجاح بطعم التهديد الدائم بالموت» فكلما ارتفع رصيدك، كثرت المسدسات المصوبة إلى رأسك!
لا يقصد الدوسري التعميم، لكنه يسلط الضوء على شريحة من المهاجرين العرب التي تصارع الظروف لتعيش وتثبت أقدامها وتحقق أحلامها، لكنهم يسقطون قتلى أو يتعرضون للسرقة والإفلاس والخطف والاحتيال، ومن بقي حيا فإما أن يكافح ويغامر، أو يعود إلى بلده قبل أن يخسر كل شيء، كما حدث مع عبدالله الذي فقد زوجته قتيلة بالرصاص، فثأر لها، وعاد إلى وطنه مع طفله اليتيم، متبعا نصيحة رجل أسود عابر «طالما لديك وطن فلا داعي للموت».
وبعد؛ فإن رواية «حراج فلوريدا» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، عام 2021، في 311 صفحة، تناولت أيضا مجالات العمل للمهاجرين وظروفها، والعلاقات الاجتماعية والعاطفية وتقلبها، والحياة ومعناها، والفسيفساء الأمريكية، ومشكلة السود والهنود الحمر، وغيرها، وكل ذلك بلغة جميلة، وسرد سلس ممتع، وصياغة محكمة، ويجد القارئ عشرات الاقتباسات عميقة الدلالة، كما هي في معظم روايات الدوسري. وتقدم وجبة معرفية للقارئ، وتدعو لإعادة النظر في حقيقة الحلم الأمريكي، وأن أمريكا ليست من لبن وعسل، فهي «الأسوأ دوما في كل شيء، والأحسن أيضا في كل شيء».
وهذه الرواية هي آخر ما أصدره الروائي والمترجم والأكاديمي أحمد الدوسري، وصدر له من قبل: عدد من الروايات منها: «عصافير الأولين، لا منطقة حرة، الظلام من الشمال، ابن زريق البغدادي، رجل عادي بطعم المهانة، الأبيض والأخضر، لوكيميا، الحياة كما أردتها، شارع الدبوس» وفي الشعر: «طبقات التعساء، آيل للمكوث، الجواد الأخير، الخروج على النهر» بالإضافة إلى عدد من الكتب المترجمة والمؤلفات النقدية والقصصية.

موسى إبراهيم أبو رياش

كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: