أنا بوفاري في السينما (صفحة مدام بوفاري – فيسبوك)
تشترك النساء الثلاث في تجسيد صفة “الخيانة” لأسباب متشابهة بين إيما ولي لي، ولكنها ليست قريبة من أسباب آنا. فبينما تلاحق إيما بوفاري ولي لي طموحهما نحو حياة أزهى وأكثر صخباً وحيوية، نجد آنا تلاحق قلبها الذي انتفض عشقاً للضابط الشاب فرونسكي. لكن الثلاث ارتكبن “كما يوصف فعلهن اجتماعياً”، الخيانة. وهنا أيضاً نجد أن زوجي آنا وإيما لم يكونا معنيين بالعشق والوله والمحبة التي تبحث عنها المرأة عادة كملاذ يؤمن الحماية والدفء. بينما نجد عاشق لي لي “الشاب البيروفي ريكاردو” مولعاً بالمرأة التي تمارس خيانتها له بعلمه وبمعرفته، كما حدث مع أليكسي زوج آنا الذي اكتشف خيانة آنا ووافق على إبقائها زوجة له حفاظاً على وظيفته ومكانته الاجتماعية التي كانت تتصاعد كل يوم.
زوجان وعاشق
النساء الثلاث مرتبطات بثلاثة رجال: زوجين وعاشق، ويقمن بخيانة هؤلاء الرجال، ولكل منهن رؤيتها للحياة المتخيلة أو المرتجاة. خلال رحلة الخيانة الثلاثية تتعرض الشخصيات الثلاث إلى متاعب نفسية تظل تكبر يومياً وساعة بعد أخرى حتى الممات. فقد تخلت آنا عن ابنها الصغير لأجل هذا العشق، وتخلت إيما “سلوكياً” عن ابنتها، وفقدت لي لي ذلك الاستقرار الدافئ الذي كانت تركض وراءه اعتماداً على جمالها.
بطلة يوسا على غلاف الرواية (دار الجمل)
الملاحظ هنا هو أن إيما بوفاري ولي لي كانتا من أصول ريفية فقيرة، بينما كانت آنا تنتمي، إلى الطبقة المتوسطة وفي طريقها للصعود إلى طبقة أعلى. لكن هذه الأصول المتباينة تلاشت عند اختبار”الخيانة” وكأن الروائيين الثلاثة يريدون التأكيد أن الموضوع لا يتعلق بالصراع الطبقي، مقدار ارتباطه بسيكولوجيا الإنسان ورؤيته للحياة من زاوية ذاتية.
لقد كانت “ميديا” ابنة ملك حين أحبت جيسون وعارضت أباها. وكانت لي لي فتاة بيروفية معدمة. وإذا كانت الشخصيات الروائية قد أثرت في إيما بوفاري، فإن صخب الحفلات قد أثر في الطفلة الخبيثة لي لي.
تخط كل من النسوة الثلاث طريقاً مغايراً للحياة التي كانت عليها. آنا كارينينا تعشق شاباً وتهجر زوجها وابنها، وإيما بوفاري توغل في إقامة علاقات خارج الأسرة والزواج إلى أن تجد نفسها مثقلة بالديون، ولي لي تغير شخصيتها عند كل علاقة جديدة تقيمها، وتعود بين هذه العلاقات إلى العاشق ريكاردو الذي لم أصادف أدبياً عاشقاً مثله، متسامحاً راضياً، على الرغم من معرفته بكل ما تقوم به الطفلة الخبيثة.
شخصيات متشابكة
الغريب هو أن لي لي طفلة ماريو بارغاس، كانت تعرف مقدار هذا الحب الذي يكنه لها ريكاردو، لكنها وجدت نفسها موزعة بين ماض فقير كئيب ومستقبل متخيل تصبو إليه، وبينهما يقف ريكاردو العاشق الذي يفترق عنهما. فهو موظف محترم إلى حد ما، ولكنه لا يستطيع توفير حياة صاخبة وثرية تطمح إليها الفتاة.
رواية “مدام بوفاري” بالترجمة العربية (دار المدى)
هذا الأمر ينطبق على إيما بوفاري تماماً؛ لقد ظنت في البداية أن زواجها من الطبيب شارل بوفاري سيوفر لها حياة مغايرة لحياة الريف والروتين التي كانت تعيشها، لكنها تكتشف تدريجياً أن زوجها يحمل في أعماقه تلك الروح الريفية البسيطة، حيث نراه مسكوناً بالقناعة، وفاقداً لأي طموح آخر. وهكذا تعيش إيما حياة بسيطة ورتيبة تختلف عن حيوات الشخصيات الروائية التي قرأتها. ولذلك كان من السهل عليها الوقوع في براثن الصخب الذي يتمثل لاحقاً في علاقات عدة خارج العلاقة الزوجية.
لكن آنا كارينينا لم تكن تفكر في حياة مغايرة، وكل ما حدث لها هو أنها اكتشفت أن العلاقة الزوجية الرتيبة مع رجل لا يمثل لها سوى استقرار روتيني بارد، وخصوصاً حين التقت بالضابط الشاب فرونسكي في إحدى الحفلات في موسكو. حينها قررت أن هذا الحب أقوى من الرابط الزوجي، ثم تطور إلى أن غدا أكبر من الأسرة والابن. وبغض النظر عن الأحكام الأخلاقية عند النساء الثلاث، إلا أن هذا الطريق كان خياراً ذاتياً لا نستطيع الحكم عليه إلا فنياً.
تصل ميديا في علاقتها بجيسون إلى مرحلة من الشك به وبحبه لها، لا تعود قادرة معه على الاستمرار في هذه العلاقة، فتنمو لديها مشاعر الانتقام التي تصل بها إلى البحث عن أقسى ما يمكن أن تعاقب به جيسون، فتختار قتل ابنيها لكي تلقي بزوجها في الجحيم حياً. لكن آنا حين تصل إلى المرحلة ذاتها من الشك بحب فرونسكي، وقد فقدت ابنها الذي فضلت التخلي عنه لأجل هذا الحب، تختار نهاية أخرى تتمثل في الانتحار بإلقاء نفسها أمام القطار في المحطة.
وحين تكتشف إيما بوفاري أن كل ما فعلته لم يؤد بها إلى الحياة التي حلمت بها وتخيلتها، وقد وجدت نفسها مثقلة بالديون ومحاصرة بالخوف في متاهة أو دوامة قوية، تختار التخلص من حياتها بتناول السم. أما لي لي فقد اختار لها ماريو بارغاس يوسا نهاية مغايرة شكلياً، حين أصابها بالسرطان، وذهب بها في النهاية لكي تموت على فراش ريكاردو وأمامه، بعد أن سجلت كل ما تملكه باسمه.
ثلاثة نماذج
نحن أمام ثلاثة نماذج روائية بنهاية واحدة هي الموت. ولكن السؤال الذي تركناه حتى النهاية هو: من قتل إيما وآنا ولي لي؟ لا توجد جريمة مباشرة أو مألوفة في الروايات الثلاث؛ لا يوجد قتلة مباشرون؛ لا أسلحة ولا مسارح جريمة ولا ألغاز. ولكن المتأمل في مسارات الوقائع التي صاحبت رحلات النساء الثلاث، يجد وراء موت كل منهن شخوصاً آخرين.
أنا كارينينا في السينما (صفحة كارينينا – فيسبوك)
حين جاء شارل الطبيب إلى منزل إيما كي يعالج والدها، وقعت في غرامه. لكننا ننتبه لاحقاً أن هذا لم يكن صحيحاً تماماً؛ إنه لم يكن ذاك الحب الذي عرفناه في الروايات الأخرى. لقد اعتقدت إيما أن ارتباطها بشارل يمثل العتبة الأولى التي كان عليها أن تتجاوزها للانعتاق والتحرر. لكن شارل لم ينتبه لأنه كان رجلاً نمطياً ممن لا يفكرون في معنى الحياة؛ لا يفهمونها إلا كما ورثوا هذا الفهم وخبروه عن آبائهم وأمهاتهم ورأوه في الآخرين ممن حولهم.
لقد أوحت إيما لشارل غير مرة أنها تريد لها وله أن يتحررا مما هما فيه. لقد أخبرته مراراً أن في استطاعته أن يغير هذا الواقع الساكن الذي لفّهما. لقد سئمت صور المجلات وأخبار المجتمع. لقد أوحت له أن هذه الصور ليست سوى الصدى لصوت حقيقي موجود في مكان ما، وأن كل ما عليه أن يفعله فقط، هو أن يمتلك الإرادة الكافية للخروج من القفص الذي ارتضاه له ولها. لكن رؤية شارل للحياة رفضت كل نداءات إيما.
كان على إيما أن تظل حبيسة تلك الرؤية النمطية، فهي لم تبحث بنفسها عن الصوت الذي كانت صور المجلات تمثل لها صداه. لقد وقع لها ذلك “مصادفة” كما يحدث في التراجيديا الإغريقية. ولكنها وصلت في ما بعد إلى منعطف غامض! لقد اكتشفت زيف هذا الصخب وأنانية أصحابه وتسلطهم على الآخرين من دون مراعاة للقيم الإنسانية النبيلة. لم يكن ذلك يعني أن طموحها كان غير مشروع، وإنما كان يشير إلى اختياراتنا العشوائية أو المخاتلة. كان أمامها ثلاث طرق: العودة إلى شارل والحياة النمطية التي سئمتها، أو الاستمرار في فقدان إنسانيتها في العالم الجديد، أو الموت، فاختارته.
أما آنا كارينينا فقد قتلها زوجها أليكسي بتطلعاته الارستقراطية، ولا مبالاته نحوها كإنسان وكامرأة بحاجة إلى الحب والعاطفة، لا إلى الحفلات وحكايات المجتمع المخملي فحسب. وتظل الطفلة الخبيثة لي لي التي تطرفت في الانتقام من ماضيها وحياة الفقر والجوع والتهميش التي عاشتها من قبل، وربما كانت إصابتها بداء السرطان هي الوسيلة الوحيدة التي ستوقف انحدارها وتطرفها اللامحدود. لقد ظل ماضيها يلاحقها ويدفع بها إلى تخوم المجازفة، إلى أن انزلقت إلى الهاوية.
يوسف ضمرة