
تفكيك أساطير الفنّ الإسلامي
ضمن منشورات راوتلدج، في لندن ونيويورك، صدرت مؤخراً بالإنكليزية دراسة بالغة الأهمية تحت عنوان «تفكيك أساطير الفنّ الإسلامي»، ضمّت 14 بحثاً، أشرف على تحريرها أنور أوزتوك وزينيا غازي وسام بوكر؛ تتوخى، في الخطوط العريضة، اقتراح طرائق تمكّن الباحثين من تحدّي الأفكار النمطية عن الفنّ الإسلامي، وفي الآن ذاته تفادي خلق أساطير جديدة في سياق النشاط التفكيكي ذاته، وإتاحة ميادين جديدة لاستكشاف أبعاده الوطنية والإثنية. ورغم أصوله الاستشراقية، فإنّ حقل الفنّ الإسلامي يواصل التنامي والاتساع، بحيث بات يشمل إدراك حضارات أخرى في أوروبا وأفريقيا وآسيا، فضلاً عن الشرق الأوسط؛ وصارت الجامعات والمتاحف والمؤسسات التعليمية الأخرى بمثابة مقارّ لممارسة هذا الطراز من تفكيك، وبالتالي تصويب، مجموعة غير قليلة من تيارات أسْطَرة هذا الفنّ واختزاله تحت سقوف تنميطية قاصرة أو خاطئة.
ليس هنا المقام المناسب لتثمين هذا الجهد الفريد، بالطبع، فالكتاب جدير بمراجعة مستفيضة وأكثر تعمقاً تتجاوز مساحة هذا العمود؛ غير أنّ الإشارة إليه في مستهلّ هذه السطور تقصدت ما انطوى عليه من إنصاف للمؤرّخ والأكاديمي الأمريكي فرانسيس إدوارد بيترز (1927 – 2020)؛ وخاصة الفصل الذي كتبه خوان دو لار من المعهد الأركيولوجي في كلية لندن، بعنوان «التثاقف المتقاطع مع الهيللينية الكلاسيكية في جزيرة العرب القديمة». والبحث يساجل بأنّ النزاهة العلمية والتاريخية تقتضي تفضيل صفة التثاقف، على صفة التأثّر، في استعراض العلاقات الثقافية بين الهيللينية (الحضارة الإغريقية) وصدر الإسلام، أو حتى في بعض أحقاب الجاهلية، في جزيرة العرب عموماً ولكن في الحجاز على نحو خاص. ومقاربة مثل هذه لا تكون عادلة مع ثقافات الشعوب في أحقاب شهدت الكثير من أنماط التفاعل والتقاطع، فحسب؛ بل تفسح مجالاً رحباً لاستقراء ما يُعتبر، بحقّ، سابقة تاريخية لما يُصنّف اليوم تحت خانة العولمة.
امتناع كثير من الباحثين الغربيين عن تمحيص ديناميكية المثاقفة يتجاوز حدود التقاعس العلمي، إلى الانكباب القصدي على صناعة أسطورة أخرى مجحفة بحقّ الفنّ الإسلامي، وعلى الإمعان أكثر فأكثر في تنميطه.
وقد وضع بيترز عدداً من المؤلفات الهامّة التي مزجت المسح الموسوعي بالتدقيق التفصيلي لهذه أو تلك من القضايا الحساسة المتعلقة بالشرق إجمالاً، وبالإسلام بصفة خاصة. ففي عام 1977 غاص عميقاً في علاقات بيزنطة بالعرب في سوريا، وبعد نحو عقد قدّم دراسته المطوّلة حول تيبولوجية المدينة المقدّسة في الشرق الأوسط، وكانت القدس ومكّة المكرمة في طليعة أمثلته. بعد ذلك أصدر كتابه المدهش «الحجّ»، حول جانب خفيّ من تجربة الحجّ إلى مكة مثّلته تلك الرحلات التي قام بها حجّاج أوروبيون دخلوا خفية إلى الحرم الشريف، بدافع العلم أو بدافع الفضول أو «التجسس الأكاديمي» حسب تعبيره. كذلك كتب بيترز مجلداً ضخماً بعنوان «التوحيديون: الصراع بين اليهود والمسيحيين والمسلمين»، يظلّ أقرب إلى سردية تروي تكامل الأديان التوحيدية الثلاثة، وتصارعها، على نحو جدلي معمّق ورصين وغير تنميطي.
وفي تفضيل هذه السطور يقع عمله الكلاسيكي الفريد «مكّة: تاريخ أدبي للأراضي المقدّسة المسلمة»، الذي تابع خطّ كتاب «الحجّ»، ولكن من زاوية التاريخ الأدبي لمكّة والمدينة وتوابعهما. وبعض أسباب تفضيل هذا الكتاب تعود إلى أنّ بيترز ـ هنا تحديداً، وأكثر من أيّ عمل آخر ـ يفضح عجز المؤسسة الاستشراقية عن تجاوز ثوابت كبرى حول الإسلام والمسلمين، كانت وتظلّ راسخة رسوخ الجبال عند كبار المستشرقين مثل صغارهم.؛ وهي، استطراداً، من طينة الأساطير التي يسعى إلى تفكيكها الكتاب المشار إليه في الفقرات أعلاه. وذاك، أيضاً، كتاب يوفّر حفنة أدلة ساطعة على أن بيترز، وإنْ علا كعبه وتسامت مقاصده، يظلّ ملتزماً بقواعد العمل التي استنّها ثقاة النادي الاستشراقي، منذ الأنشطة الأولى في القرون الوسطى وصولاً إلى سُنن «بطريرك الاستشراق» برنارد لويس وأخلاقيات 11/9 دون سواها!
على سبيل المثال، حين يناقش بيترز فكرة «الحدود»، التي في قناعته كانت وراء تحريم الأماكن المقدسة على غير المسلم، فإنه يبدو كمَن يتحدّث عن ثقافة الـ Frontiers كما صنعتها الحرب الأهلية الأمريكية وكرّستها في المخيال الجَمْعي. أو نراه، في مثال ثانٍ، أكثر ارتياحاً إلى اقتباس المصادر الغربية الاستشراقية حين يروي تجارب الحجّ السرّي التي قام بها رحالة غربيون (أوّلهم كان الإيطالي لودوفيكو دي فارتيما، والذي تنكّر في زيّ مملوك والتحق بقافلة خرجت من دمشق للحج، في عام 1503). وفي مثال ثالث يكرّس بيترز الفصلين الخامس والسادس لحركة الشريف حسين، وللمخططات الاستعمارية الأساسية، وتحالف آل سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ ولكنه، في هذه كلها، لا يختلف كثيراً عن المقاربة الاستشراقية التقليدية. ما يميّز عمل بيترز، مع ذلك، هو المعايير التي يعتمدها، ويناقشها جيداً، في تحديد أسباب القول بوجود أراض مقدّسة في ديار الإسلام، الأمر الذي يجنّبه مشاقّ ومزالق تحديد الأراضي ذاتها، بالمعنى الجغرافي المحض.
وهذه خلاصة تردّنا إلى ما يسعى إليه دو لار في بحثه عن صيغة عَوِلَمية من التثاقف بين الحضارات، الإغريقية والإسلامية هنا؛ خاصة وأنّ الهيللينية، رغم جذورها الإغريقية – الرومانية في البدء، تعددت وتنوعت واغتنت، ولم تعد سمة إثنية أو قومية أو حتى مناطقية. وامتناع كثير من الباحثين الغربيين عن تمحيص ديناميكية المثاقفة يتجاوز حدود التقاعس العلمي، إلى الانكباب القصدي على صناعة أسطورة أخرى مجحفة بحقّ الفنّ الإسلامي، وعلى الإمعان أكثر فأكثر في تنميطه.