حرب أكتوبر في الأدب العبري: عن الاغتراب والضياع والرعب
القاهرة : «كنت طفلة صغيرة وكنا في حرب 1948، عندما غنيت لي: أعدك أن الأمور ستكون على ما يرام، ارتديت الزي العسكري، وألفت لي أغنية، ووعدتني بأن هذه هي الحرب الأخيرة، قلت لي وقتها، سترين يا صغيرة، أن هذه ستكون الحرب الأخيرة، ومرت بضع سنين. وعدت مرة أخرى للحرب، في معارك سيناء وحرب 1956، ومرة أخرى كتبت لي أغنية ذاع صيتها، واشتريت اسطوانة ثم أخرى، لأنك وعدتني من جديد، سترين يا صغيرة، أن هذه ستكون الحرب الأخيرة، وذهبت مجدداً إلى ميادين الحرب والدماء، وكتبت لي قصيدة جديدة، متفائلة وبريئة، طبعت على الفور في كل دواوين الشعر. ووعدتني مرة أخرى وقلت: سترين يا صغيرة، أن هذه ستكون الحرب الأخيرة، وهكذا وصلنا إلى حرب أكتوبر. وسارعت مرة أخرى إلى تأليف المزيد من القصائد، ومرة أخرى قلت لي: يا طفلتي الصغيرة… أنا الآن كبيرة ولم أعد أصدق، إن كان لا بد أن نحارب فلنفعل ذلك، لكن على الأقل، يمكنك أن تتوقف عن كتابة القصائد وإطلاق الوعود!». (أحد الشعراء الإسرائيليين الذين شاركوا في حرب 73).
تمر هذه الأيام الذكرى الـ(49) لحرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973. وبغض النظر عن تأويل نتائج هذه الحرب وأثرها التي نعيشها حتى الآن، إلا أن فكرة تحقيق انتصار ـ ولو بشكل جزئي ـ على الكيان الصهيوني، أنجز بعثاً جديداً في الروح والوعي المصريين، صحيح أنه كان كالحلم وتم القضاء عليه بعد اتفاقية (كامب ديفيد) وسياسات الانفتاح الاقتصادي بعدها، إلا أن هذه الحالة لم تزل عالقة في أذهان المصريين رغم كل ما حدث وما يحدث، وربما هي حالة الانتصار الوحيد في التاريخ المصري الحديث. وبعيداً عن السياسي والاقتصادي والتقارير الإخبارية، تأتي حالة (الأدب) لتكشف في صدق وعمق أكثر عن أثر أكتوبر في حياة الناس العادية.
ويحفل الأدب العربي بالعديد من الأعمال التي تناولت حدث أكتوبر، من رواية وشعر وقصة، وكذا الأعمال الفنية من مسرح وسينما. لكن.. ماذا عن الوجهة الأخرى؟ ماذا عن أثر هذه الحرب في الأدب الإسرائيلي، خاصة أن الفعل الأدبي في إسرائيل لم يكن منفصلا يوماً عن فعل وفكر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية؟
المتعالي اليائس
دائماً ما يرى الإنسان اليهودي أنه كائن مختلف، بداية من أساطيره المقدسة، بما أنه ينتمي إلى الشعب المختار، وكل ما يخالفه فهو من (الأغيار) وصولاً إلى وجوده على الأراضي الفلسطينية، ونظرته المتعالية إلى الشخص العربي، فهو المتفوق دائماً على هذا الجاهل الهمجي. فالجنود على سبيل المثال وهم في طريقهم إلى ميدان القتال لم يظنوا أن الحرب ستطول، بل يعتقدون أنهم ذاهبون في نزهة قصيرة سوف يعودون منها بسرعة، لكن بعد الحرب تحولت سمات الجندي الإسرائيلي في الروايات إلى أنه محطم نفسياً وصامت ومنغلق على نفسه، كما أدت الحرب إلى إثارة مشاعر اليأس لديه، وصلت به لحالة من الرفض الكامل لكل ما يجري حوله، ومدى الانهيار الداخلي الذي أصيب به المواطن الإسرائيلي بشكل عام. ويرى الكاتب سيد نجم في كتابه «أطياف إبداعية في مواجهة العنف» أن الإسرائيلي مع كل التجارب الحربية التي خاضها مع العرب، كان على حال من التعالي، ووضع نفسه في موضع المتفوق. ولم تتغير تلك النظرة إلا بعد نتائج حرب 1973، حيث أضيف إليها قدر من التشكك والتساؤل وربما الحيرة». من ناحية أخرى «نجد بعض القصص النادرة التي تتعامل مع شخصية العربي كإنسان وصاحب حق، كما في أعمال بنيامين تموز، دوريت أورغاد، وموشيه بن شاؤول» (محمد دوابشة.. صورة العربي في الرواية الإسرائيلية). كذلك تشير آراء الجنود الإسرائيليين ـ في أحاديثهم المنشورة بعد الحرب ـ إلى الصدمة التي شعروا بها نتيجة لاختلاف صورة العرب التي شاهدوها بأنفسهم في الميدان، عن الصور التي سمعوها في وسائل الدعاية الإسرائيلية.
الصدمة
بداية لا يمكن فك الارتباط بين الأدب الإسرائيلي والحرب، فيقال.. أدب 48، وأدب 67، وأدب 73. وتأتي الحرب الأخيرة لتُحدث صدمة وتغييراً في الواقع الإسرائيلي على الأصعدة كافة، فانبرى الأدباء الإسرائيليون للكتابة عن تلك الخلخلة التي حدثت في التوازن النفسي والاجتماعي، بل والأمني في نفوس الإسرائيليين، وبدأت إرهاصات مراجعة شاملة لكل المسلمات السابقة وقد ظهرت خلال تلك الفترة أعمال أدبية روائية عبرّت عن التفسخ الاجتماعي والسياسي الذي اجتاح إسرائيل بعد حرب 73، التي أجبرت الكتاب الإسرائيليين على الالتزام إلى حد كبير بالصدق التاريخي والبعد عن الأدب المجند المروّج للأفكار الصهيونية، كذلك تم تناول الحرب من خلال زوايا مختلفة أبرزها الخوف من المصير الوجودي الذي ينتهي بهم إلى الفناء، وآثار هذه الحرب على قضية الانتماء والسعى للعودة إلى الشتات اليهودي، باعتباره أكثر أماناً من الحياة في دولة إسرائيل، التي تتهددها الحروب الدائمة طالما إن قضية الصراع العربي الإسرائيلي لم تحل (رشاد الشامي. تفكيك الصهيونية في الأدب الإسرائيلي).
الانهيار والرعب
ونأتي لبعض من القصائد التي تناولت حالة الفزع والرعب التي أصابت المجتمع الإسرائيلي بعد الحرب، نذكر منها قصيدة بعنوان (نهاية ليلة) ـ المقصود ليلة الغفران ـ للشاعر إسحق بولاق، فيقول..
«وبينما صوت البرق يتردد/إيذانا بانتهاء النهار/تتدافع فجأة من داخل صفحات كتاب الصلاة/نداءات هامسة/وتتساقط من على الأكتاف/عباءات الصلاة/إلى هناك/إلى قلب المعمعة/رمح فى مواجهة رمح/وقطعة من الصلب/فى مواجهة صلب/الأرض تتلوى/والرمال والهضاب تميد/ في صلاة فزع/ربّ العالم/عجَّل بنهاية الطريق/ خفافيش هائجة تتخبط في الهواء/تحلق بلا صوت/ وعلى مبعدة من هنا/تعمل فوهات البنادق/تنفث من أفواهها/الرعب».
وتقول الشاعرة الإسرائيلية إيتان هابير..
طابور طويل/من النقالات والبطاطين الرمادية/الأفق أحمر بلون الدماء، من انفجارات القذائف/وذخير المدافع كالصراخ والعويل/طابور طويل/من النقالات والبطاطين الرمادية/وأحذية سوداء، تطل من داخلها/أحذية قتلى المدرعات والمدفعية والمشاة والمهندسين/أحذية قتلى المظليين الحمراء/أحذية جديدة لجيل لم يعرف معنى الحرب/وملابس ملطخة بالدماء/وملابس قتلى الطيارين الرمادية/بعد أن ساروا بسرعة الصوت إلى حتفهم/ووجوه شاحبة مطلة/وجوه ضباط كلها رعب/الضباط الكبار مثل الشباب حديثي العهد بالحروب/وعيون أطفأتها نيران الحرب/نقالات وبطاطين رمادية/ساكتة وصامتة هنا في مملكة الصمت/ونحن لا نملك إلا البكاء! (إبراهيم البحراوي. بطولات المصريين وأثرها فى الأدب الإسرائيلي).
الرواية وواقع الكيان الصهيوني
وإن كان الشعر أسبق في تسجيل واقعة أكتوبر، فإن الرواية جاءت كمتواليات لتجسيد ما حدث خلال العديد من السنوات التالية للحرب، نظراً لطبيعة الرواية وتأملها للأحداث..
العاشق
عنوان رواية للكاتب إبراهام يشواع صدرت عام 1977 وفيها يرصد يشواع انعكاسات الحرب على الإنسان والمجتمع الإسرائيلي، معترفاً صراحة بالهزيمة.. «كانت ثمة حرب، أجل وقعت علينا وقوع الصاعقة. وها أنا ذا أعود إلى أعماق الفوضى التي سادتنا، ما زالت أمام أعيننا إلى اليوم قائمة بأسماء بعض المفقودين الأحاجي، ولا يزال الأقارب والأهل يلملمون الآثار الأخيرة.. مزق الثياب ومزيج صفحات البطاقات المتفحمة والأقلام المعجونة والمحافظ المثقوبة وخواتم الزواج المصهورة». ويتناول بطل الرواية بشكل ساخر الغرور الإسرائيلي الذي سبق الحرب، حيث حضر إليه ـ وهو عامل في جراج ـ مع بداية الحرب واستدعاء قوات الاحتياط لأعداد كبيرة من الجنود والضباط الإسرائيليين يطلبون استغلال فترة غيابهم (القصيرة) لضبط سياراتهم، فقد ظنوا أنفسهم في رحلة أو على الأكثر أمام حرب قصيرة، ويعودون بعد أيام إلى البيت ويستلمون السيارات. لكن العودة لم تكن سريعة كما توقعوا.. «كان عليّ أن آخذ سيارته بنفسي إلى بيت والديه وأن أشد على أيدي أهل الفقيد هامساً بأقوال التعزية، وأن أسامحهم في التكاليف… أما السيارات الأخرى فقد جاءت النساء لتسلمها أولا، اللواتي تعلمن القيادة. ولم يحدث أن التقيت بمثل هذا العدد من النساء، كما حدث لي في تلك الأسابيع التي تلت الحرب». ويحاول البطل بعد ذلك الهروب من الموت بالانضمام إلى الجماعات الدينية غير الملزمة بالقتال، لكنه يعلن في النهاية أن الصهيونية لفظت أنفاسها بعد حرب اكتوبر، ولن يكون الحل الديني هو البديل أمام إسرائيل بعد هذه الحرب.
ثلاثة أسابيع في الخريف
عنوان رواية ياعيل دايان ـ ابنة موشيه دايان ـ الصادرة في 1979 التي تجري أحداثها في مستشفى أقيم في القرب من تل أبيب، ليتلقى جرحى الحرب العلاج والرعاية الطبية، حيث مركز الأحداث هو عنبر المصابين بالحروق. الجميع هنا يعاني الخوف والقلق والأسى. وكعين خارجية ترصد وتعلق على الأحداث تأتي امرأة أمريكية، زوجة لمقاتل إسرائيلي يترك أمريكا ويعود للقتال في حرب أكتوبر دفاعا عن إسرائيل. فتقول.. «إنكم مشغولون بشيء لا يعني إلا القليل بالنسبة لي.. إنه المصير، إنكم تحللون أنفسكم وتعيدون معيشة التاريخ، وتتحدثون بألفاظ كبيرة عن المصير والهوية، وتحفرون في أرواحكم الجماعية في كل لحظة من النهار وقد يكون هذا بطولة ويستحق الثناء، لكنه بالنسبة لي مرعب ولا إنساني». بينما تلخص إحدى الشخصيات الأخرى في الرواية الأمر قائلة.. «إن المكسب يقاس هنا بالأميال المربعة، لكن الخسارة هي التي تقاس بالأرواح .. لقد كانت الخسارة أكبر من المكاسب».
ريش
وفي العام نفسه ـ 1979 ـ صدرت رواية بعنوان «ريش» لحاييم يئير. ويتم سردها من وجهة نظر جندي عمل في الفترة الأخيرة من الحرب وفي الفترة التالية لها في البحث عن جثث الجنود الإسرائيليين. ليكتشف أن قتلى الحرب ليسوا مجرد أرقام ترد في إحصائيات وبيانات وزارة الدفاع، وأن لكل منهم أبا وأما وأقارب وأصدقاء وزوجة وأولاد سيفتقدونه إلى الأبد.
عيسو
صدرت الرواية عام 1994 للكاتب مائير شاليف، وحسب رشاد الشامي في دراسته «أدب ما بعد الصهيونية» فالرواية أعلنت عن فشل الصهيونية وفشل مشروعها الأساسي، المتمثل في ما يُطلق عليه (دولة إسرائيل) حيث توقع المؤلف أن تتحول الدولة إلى مقبرة قومية، وبذلك تعود فلسطين لتقوم بدورها الأخلاقي الذي كانت تقوم به حيال اليهود وهم في الشتات. وتتنبأ الرواية بأن المخبز الذي كان يمتلكه إبراهام وأورثه ليعقوب دون عيسو سوف يعود لنسل عيسو. وربما يتوالد من تزاوج عيسو ورومي (رمز حركات السلام في إسرائيل) نسلاً جديداً. وتعرضت الرواية إلى هجوم عنيف، لأن مؤلفها تجرأ وأنكر الأساطير اليهودية المتصلة بالميراث الأبدي لليهود على أرض فلسطين.
وفي الأخير يجب التنويه بكذب وتضليل القيادة العسكرية مهما اختلفت. فبعد حرب أكتوبر 1973 تحاشت القيادة العسكرية الإسرائيلية استخدام كلمة (هزيمة) وأحلت محلها كلمة (تقصير). ليتضح أن الفارق ليس كبيراً بينها وبين كلمة (نكسة).
محمد عبد الرحيم
القدس العربي