
حواجز لا مرئية في رواية «حبيبتي مريم»
مع الاتجاه نحو التشيؤ، وفقدان القيم الإنسانية، والتخلي عن المبادئ، يزداد الصراع بين غالبية تستشرس لتحمي مصالحها، وقلة لا تزال متمسكة بالدفاع عن منظومة الأخلاق، ولو كانت أداتها الكلمة في وجه السلطة.
أسئلة كثيرة تطرحها هدى عيد في روايتها «حبيبتي مريم» الصادرة عن دار الفارابي ( 2022) حول العلاقات المتشظية، الانقلاب السريع الذي طال المجتمع، اهتزاز العالم، افتراس الناس بعضهم بعضا، الموت والحياة، البحث عن الحب والسعادة، العائلة بوصفها صمام الأمان. مجمل الشخوص خائبة، منكسرة، تسعى وراء أحلام، لكن قدرها يحطم مآربها؛ «جودي» الابنة تفقد زوجها في انفجار المرفأ، «حكيم» الابن، كما يبدو من خلال السرد، ضائعا، تائها، يبحث عن نفس لم يجدها، لا في وطنه، ولا في الغربة، «غريب جوال» الأب، والزوج أيضا يصف نفسه هاربا: «في كل يوم يتجدد هروبي». ويفقد حبيبته وزوجته «مريم» التي تُقتل بعد اغتصابها، وتُخفى جثتها، ضحية مواقفها، وتفانيها في عملها الصحافي.
هي الحاضرة الغائبة في الرواية، تتقاطع حولها، وتُشد في اتجاهها معظم الأحداث. وكأن عبارة» شلال ضوء» التي تطالعنا في عدة فصول من الرواية، تؤكد الدور الذي نذرَت مريم نفسها في سبيله؛ كشْف ازدواجية الزعامات والساسة على الملأ، وفضح جرائمهم، والدخول إلى جحورهم، ومواجهتهم، لتكون ضوءا ينير بعض زوايا العتمة في زمن الفساد. تدور الأحداث ضمن دوائر مكانية، تبدو متباعدة على الخريطة (لندن ـ بيروت) لكنها ملتحمة بروابط، ليس مردها أن الذوات الساردة من عائلة واحدة، بل كونها تعيش هواجس متماثلة. يشكل المترو الدائرة المكانية الأولى، أو البؤرة التي ينفتح من خلالها السرد على لسان «حكيم» من مكان مغلق (إلى أين يأخذنا هل نحن في مترو؟) ألا يشبه العالمَ الذي نحيا فيه نفقا مظلما لا نهاية له؟ ومع السرعة التي يقطع بها الأنفاق، تتداعى إلى الذهن زئبقية الزمن، وتقطيعه، وعدم القدرة على الرجوع إلى الوراء. كما يضع الإنسان أمام مفارقة؛ هو ضمن مجموعة، لكن، سرعان ما يكتشف أنه في عزلة. في مقصورة المترو، أنت على تماس مباشر مع عدد كبير من أشخاص تختلف جنسياتهم، وأعمارهم، ومشاربهم، لكن، في الوقت نفسه، ثمة حواجز لا مرئية تفصل بينك وبينهم، خلقتها الحداثة، وأوهامها.
مثلت الطائرة الدائرة المكانية الأخيرة التي احتضنت «الغريب الرقمي» غريب جوال، وابنته «جودي» والحفيدة» ليليا». يمكن القول، إن تأزم الأحداث في «حبيبتي مريم» والمسار التصاعدي للنقاط على الرسم البياني لحركية السرد، يكاد يتلاءم تماما مع وتيرة الانتقال من الأمكنة التي شغلتها الشخوص الروائية، بدءا من وجود «حكيم في المترو»( النفق ـ الأسفل) ومن ثم الخروج منه إلى مكان آخر، انتهاءً بالطائرة (الفضاء المفتوح) لكن الرحلة، هذه المرة، في اتجاه الوطن، إلى الجذور، وكأن لا مناص من الأرض، مهما بلغت الأثمان.
اتشحت الأمكنة بألوان موحدة، فانسحب ضباب لندن على مجرى الأحداث، وتناسلت دلالات الصقيع في مختلف فصول الرواية، اختبره حكيم بعد وفاة والدته، فسكنت البرودة أطرافه، وغرق قلبه في ثلوجه وجد نفسه «ملقى على الرصيف، في شارع جانبي رخيص، من شوارع العاصمة البريطانية الأنيقة» ما عزز نهوض الموت ثيمة بارزة في النص.
ويبقى السؤال، هل نتحكم في المحطات التي نمر بها في حياتنا؟ في لحظة الوصول؟ ونقطة النهاية؟ وهل تقنيات الذكاء الاصطناعي ستكون قادرة على معالجة العزلة التي وصفتها الروائية هدى عيد في المترو، التي هي حال الكثير من المقيمين في أوطانهم، قبل المهاجرين؟
نازك بدير كاتبة لبنانية
القدس العربي