
درس من حرب أوكرانيا لفهم التاريخ
تعاني الدول الغربية وأساسا أوروبا من قلة الموارد الأولية، خاصة الطاقة، الأمر الذي جعل اقتصادها يتعرض حاليا لأزمة حقيقية بسبب الحرب الروسية ضد أوكرانيا. وهذا المعطى، الارتباط بالمواد الأولية للغير، يكشف أن الدول الغربية بنت جزءاً من اقتصادها على سلب دول افريقية وآسيوية خيراتها وليس فقط بفضل تقدمها العلمي ونهضتها.
وتاريخيا، يوجد نقاش وسط بعض المؤرخين، خاصة المهتمين بالاقتصاد السياسي بأن الغرب اعتمد في قفزته الاقتصادية الكبرى، ونهضته الحضارية ليس فقط على التقدم في شتى المجالات، بل كذلك على خيرات العالم الثالث التي جرى نهبها بانتظام. وعادة ما تقوم الطبقة المثقفة والسياسية في الغرب بنفي هذا المعطى بل التبخيس منه الى مستوى الاستهزاء الأكاديمي ونعته بالشعبوية. ويوجد بعض أبناء العالم الثالث المرتبطين بالغرب، ارتباطا أعمى، من يؤيد هذه النظرية، ويقوم بجلد أبناء وطنه تحت يافطات منها «المؤامرة» أو الحسد من التقدم الغربي والتركيز على تخلف أوطانه.
وتوجد في الغرب نخبة من السياسيين والمثقفين من ينصف العالم الثالث، أو بعبارة أكثر واقعية المستعمرات الغربية السابقة، حيث تعترف بالاستغلال البشع للموارد الطبيعية، بل حتى اليد العاملة عبر حقب تاريخية. ولا يمكن نفي تقدم الغرب بفضل الابتكار العلمي والرهان على الديمقراطية منذ بداية النهضة الأوروبية، وفي الوقت ذاته، لا يمكن نهائيا نفي ما شكلته عائدات سلب المستعمرات من خيراتها ومواردها الأولية كعامل مساعد لتعزيز هذا التقدم. وتأتي الحرب الأوكرانية الحالية لتبرز هذا المعطى التاريخي بامتياز، رغم اختلاف السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي. في هذا الصدد، نتفاجأ يوميا بتصريحات مسؤولين غربيين من إسبانيا إلى فنلندا ومرورا بفرنسا وألمانيا ودول أخرى تعرب عن قلقها الشديد من قرار روسيا وقف تصدير الغاز والنفط، حيث تتخوف من تراجع كبير في النمو الاقتصادي ومعاناة الساكنة مع البرد، بسبب سياسة التقشف في استعمال الطاقة. ويرسم الخبراء صورة قاتمة للاقتصاد الأوروبي، وبالتالي للرفاه الاجتماعي إذا طبقت روسيا تهديدها، وسيتفاقم الوضع أكثر لو أن الدول المصدرة للطاقة مثل أوبك تحكمت أكثر في الأسعار. وتعاني أوروبا من هذا الوضع في وقت ارتفعت فيه الأسعار وتراجعت وارداتها من الطاقة قهرا بسبب الحرب، وعليه نطرح التساؤل التالي: ماذا لو كانت أوروبا ومنذ قرون تشتري مختلف المواد الأولية من افريقيا وآسيا بدل الحصول عليها عنوة وبالقوة عن طريق الاستعمار، الذي يعني في هذه الحالة أقصى درجات سلب الشعوب خيراتها؟ عمليا، لو كانت قد تعاملت بمفاهيم تجارية محضة مع الدول الافريقية والآسيوية في اقتناء المواد الأولية، لكان العالم مختلفا، أولا: الغرب كان سيكون أقل غنى بكثير، وكان ما يتم تسميته الآن بالعالم الثالث أقل فقرا، بمعنى أن العالم كان سيكون متقاربا نوعا ما في الدخل، من دون هذه الفجوة الاقتصادية الحالية.
رغم انسحاب الدول الأوروبية من مستعمراتها تركت وراءها شركاتها لتستمر في النهب، تحت صيغ مختلفة باتفاق مع أنظمة عميلة
لقد استمرت عملية النهب في حالة بعض الدول قرونا، وفي حالة دول أخرى عقودا. ورغم انسحاب الدول الأوروبية من مستعمراتها تركت وراءها شركاتها لتستمر في النهب، تحت صيغ مختلفة باتفاق مع أنظمة عميلة. ويضاف إلى هذا التلاعب بأسعار المواد الأولية في الأسواق الدولية حتى لا يتم أداء القيمة الحقيقية للمواد الأولية. في الوقت ذاته، تعرض عدد من الأنظمة إلى اعتداءات خارجية وانقلابات أشرف عليه الغرب بسبب محاولة بعض الأنظمة في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية تأميم مواردها الطبيعية في وجه الشركات الغربية. وهذا الملف من أخطر الملفات في العلاقات الدولية، ولم يحظ باهتمام كبير نظرا للسرية التي تحيط به. إن هذا النهب الممنهج طيلة حقب تاريخية طويلة، يقف وراء استيقاظ ذاكرة الشعوب التي خضعت بالقوة للاستعمار الغربي وأساسا الأوروبي، حيث بدأت عملية المطالبة بالاعتذار التاريخي عن جريمة الاستعمار، ثم التعويض المالي عن جرائم القتل وجرائم النهب. بدأ هذا الفكر ينتعش بقوة في منطقة أمريكا اللاتينية، وتتبناه دول كثيرة منها المكسيك وفنزويلا وبوليفيا. واحتفلت إسبانيا يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول الجاري بعيدها الوطني، حيث اختارت مناسبة اكتشاف أمريكا اللاتينية يوم 12 أكتوبر 1492 عيدها الوطني، غير أن في اليوم نفسه، جعلت دول مثل المكسيك وفنزويلا من هذا اليوم «مناسبة الاستعمار»، وتطالب إسبانيا بالتعويض والاعتذار. وكان هذا الفكر قد تبلور عند مثقفي أمريكا اللاتينية وتبنته الحركات السياسية، التي وصل بعضها إلى الحكم وجعلته نقطة في الأجندة الحكومية. بينما لم تشهد افريقيا بعد قفزة نوعية فكرية في هذا المجال. ومنطقيا، كانت منطقة أمريكا اللاتينية سباقة إلى الاستقلال في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، كما أنها تشهد حركة فكرية وثقافية ذات نفس انتقادي قوي للغاية، مقارنة مع الخطوات الجنينية في القارة الافريقية وفي العالم العربي، حيث سينضج، من دون شك، هذا الفكر المطلبي خلال السنوات المقبلة، خاصة أن بعض الحكومات تتبناه رسميا مثل السنغال ومالي والجزائر. في غضون ذلك، تبدي الدول الغربية قلقا كبيرا من هذا التوجه، وبدأت بطريقة تدريجية تصنف دعاة هذا الفكر بالمحرضين على الكراهية، ولن نتفاجأ إذا وضعتهم في خانة الإرهاب.
عموما، الحرب الروسية ضد أوكرانيا وما يترتب عنها من نقص شديد في الطاقة خاصة الغاز» يهدد بركود اقتصادي حاد مرفوق بانعكاسات اجتماعية مقلقة، تقدم صورة واضحة كيف كان الغرب رهينة المواد الأولية من القارة الافريقية والآسيوية، ولكن عن طريق العنف والاستعمار والنهب والاغتيال.