مقالات

سؤال المليار دولار؟

لعل أكثر سؤال يتردد هذه الأيام في الأوساط السياسية والإعلامية الدولية هو «من سيفوز في حرب أوكرانيا، روسيا أم الغرب»؟ هل سينجح بوتين في كسر الهيمنة الغربية على النظام الدولي ويدفع في اتجاه نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، أم إنه سيتسبب في النهاية بتمزيق روسيا نفسها؟ وبما أنه من الصعب حتى الآن التنبؤ بمصير هذا الصراع الخطير ومآلاته، تعالوا نطرح وجهتي النظر المتناقضتين حول مستقبل الحرب في أوكرانيا لربما وسعنا دائرة البحث وخرجنا بتصورات أكثر دقة.
يرى المتحمسون للموقف الروسي مثلاً أن موسكو أحبطت أكبر وأخطر عقوبات فرضها الغرب في تاريخه، لا بل جعلت أوروبا تأتي زاحفة على ركبها لإرضاء الدب الروسي. والكلام هنا طبعاً عن نجاح بوتين في فرض استخدام العملة الروسية الروبل لدفع أثمان الغاز والنفط اللذين تستوردهما أوروبا من روسيا بدل اليورو والدولار. وهذا القرار الروسي الرهيب لم يدحر فقط العقوبات الغربية ويفرغها من مضمونها، بل ساهم بشكل غير مسبوق في دعم العملة الروسية التي كان يتوقع لها البعض أن تنهار في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا بسبب تجميد الأصول الروسية في الخارج وإخراج روسيا من نظام سويف ومحاصرتها بوابل من العقوبات المكثفة. لكن العكس قد حصل، فلم يستعد الروبل الروسي قوته مقابل الدولار فحسب، بل أصبح أقوى بكثير مما كان عليه قبل الحرب.
ويرى المؤيدون للموقف الروسي أن صمود الروبل وتفوقه على الدولار هو أكبر مؤشر على أن روسيا حسمت الحرب لصالحها وأن الغرب هو المحاصر الآن وليس روسيا. ويرى أحد المدافعين عن الموقف الروسي أن موسكو الآن ترسخ وجودها على الساحة الدولية وفي كل مكان وصلت إليه في السنوات الماضية وخاصة في سوريا. ليس صحيحاً أن الروس بدأوا يسحبون قواتهم من سوريا لدعم قواتهم المهزومة في أوكرانيا، بل إنهم حققوا النصر في أوكرانيا منذ اللحظة الأولى وأن «كل ما يشاع هو نتيجة جهل بإمكانيات روسيا وأنها دولة عظمى لا يمكن أن تتراجع عن سياستها والأهداف التي وضعتها. وكل من يتوقع هزيمة روسيا فتوقعه مثل حلم إبليس بالجنة، فالعملية العسكرية قد «حققت أهدافها في الساعات الـ 48 الأولى». ولا ننسى أن القوات الروسية في سوريا تخوض الآن أكبر معاركها في البادية السورية ضد تنظيم «الدولة»(داعش) في الوقت الذي تتقدم في أصقاع متفرقة من أوكرانيا.
لكن المعارضين للموقف الروسي يسخرون بشدة من همروجة ارتفاع سعر الروبل أمام الدولار ونجاح الرئيس الروسي في تركيع الأوروبيين، ويجادلون بأن صمود العملة الروسية في وجه العقوبات الغربية أشبه بالشجرة التي تحجب الغابة، وأن الحصار الغربي لروسيا مالياً واقتصادياً يفت في عضدها وسيكلفها كثيراً في النهاية، وقد يؤدي إلى تدمير اقتصادها. ويجادل أحد الساخرين قائلاً: « لا تفرحوا كثيراً للروبل.

دهاء التاريخ دائماً أقوى من كل التحليلات وهو الذي يحدد الخاسر والرابح في النهاية

هبة الروبل و«صموده» (رجاء ممنوع الضحك) وانتعاشه الزائف هو أمر آني ومرحلي وإعلامي مرتبط ببعض التطورات العسكرية ولا سند اقتصادياً ومالياً له، فمع استمرار وطول مدة الحصار وفاعلية العقوبات وانعدام الموارد وشح الصادرات وندرة المستوردات وقطع ومقاطعة إمدادات النفط والغاز وإيحاد بدائل وأسواق وقنوات جديدة تستغني بها أوروبا عن الطاقة الروسية، ومع السطو على ومصادرة كل دولار وودائع لبوتين في مصارف الغرب لصرفها كتعويضات وإعادة إعمار لما هدمته آلة بوتين العسكرية الحربجية، سينخفض الاحتياطي النقدي لما تحت الصفر وستنهار قيمة العملة، تماماً. وهنا ستبدأ الكارثة وسيتراءى لكم بوضوح حجم المأساة، ومن يضحك أخيراً سيضحك كثيراً».
باختصار، فإن روسيا تحت المقصلة، ولا يمكن أن يتجرأ أي نظام بالعالم على اللعب والمساس بالعقوبات الغربية على روسيا وتجاوزها أو تفنيدها، وبغض النظر عن شرعية شعاراته ومدى أحقية وصوابية مطالبه، ومن دون النظر للآثار الاقتصادية والمعنوية والمالية والاجتماعية المدمرة لحالة العزلة والحصار الخانق، والعقوبات المميتة التي قد يعيشها لعقود، وأيضا، من دون أن يتجرأ أحد على كسرها. حتى الصين وإيران تقفان في منتصف المسافة ولا تتجرآن لا على المضي قدماً أو التراجع للوراء، ولقد غابت، مثلا، روسيا قبل أيام عن أهم منتدى اقتصادي عالمي في «دافوس» كان يشكل منصة استعراضية ومنبراً وملعباً للقيصر وشطحاته الفكرية وفذلكاته القومية وتنظيراته الخنفشارية وهلوساته الإيديولوجية وغزله وهيامه وحنينه المفرط للسوفييت المستبدين المدحورين. وكان يطل سنوياً من خلاله على المجموعة الكونية واليوم تتم مقاطعته على نحو مرعب وقطعي ونهائي اختفى معه صوته وأي تأثير معنوي وإعلامي له.
وبعد أن قرأنا آراء المؤيدين والمعارضين للموقف الروسي تعالوا نطرح بعض الأسئلة من خارج الصندوق. أليس من المبكر مثلاً الحكم على مستقبل الصراع بين روسيا والغرب؟ ماذا لو تطورت الأمور في اتجاه حرب عالمية مباشرة وليس بالوكالة كما هو الآن؟ هل أوروبا مستعدة للحرب، أم إنها عملاق اقتصادي ومالي وقزم عسكري؟ ماذا لو أن أمريكا تستنزف الأوروبيين من خلال توريطهم بحرب استنزاف مع روسيا؟ ماذا لو أن بوتين وسع دائرة عدوانه ليشمل الدول التي تريد الانضمام إلى الناتو؟ ماذا فعل الغرب لتركيا وهي من أهم أعضاء الناتو عندما هددتها روسيا في أعقاب إسقاط طائرة روسية على الحدود السورية التركية؟ وفي المقابل، يمكن أن نقول أيضاً إن بوتين مهما أظهر من عنتريات مجرد هتلر صغير، وإذا كان الغرب قد سحق هتلر الأصلي، فلا شك أنه قادر على سحق أشباهه الصغار. هل هناك نموذج ونظام عالمي جديد يمكن أن تقدمه روسيا للعالم؟ لو كانت قوة عظمى فعلاً لما أصبحت الآن دولة منبوذة عالمياً لا يساندها علناً سوى النظامين في سوريا وكوريا الشمالية؟
أخيراً هل أجبنا على عنوان المقال؟ بالطبع لا، فقد تكون كل التوقعات المؤيدة أو المعارضة أو المحايدة مجرد تكهنات، فدهاء التاريخ دائماً أقوى من كل التحليلات، وهو الذي يحدد الخاسر والرابح في النهاية، وهو بالتالي الوحيد الذي يملك جواب سؤال المليار دولار.

د. فيصل القاسم

كاتب واعلامي سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
جريدة نبض الوطن