ثقافة و فنون

سارتر… فانون عن الاستعمار وما بعد الاستعمار

في مقدمة شهيرة وطويلة نسبيا للفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر لكتاب المناضل والمفكر المارتنيكي فرانس فانون «معذبو الأرض» حلل سارتر وشرح بإسهاب الدور التراجعي والتدميري لنخب العالم الموسوم بالثالث المستعمر، كتب سارتر هذه المقدمة عام 1961 والكفاح ضد الاستعمار في افريقيا في أوجه، حيث يتفق تماما مع فانون أن لا خلاص من الاستعمار إلا بتدميره، فقد غدا عصابا لكنه يتحدث عن دور النخب المتبرجزة التي كونها الاستعمار، تلك النخب التي اضطلعت بمهمة الوساطة بين المستعمر وشعوبها بعد رحيله عن أراضيها، هذه البورجوازية الناشئة من العدم والتي تستعير كلماتها من المستعمر وتعيد إنتاج خطاب هجين وممارسة سياسية واجتماعية بعيدة عن طموح الشعوب المتحررة حديثا، التي لا تنسجم مع تاريخها ومنطلقاتها ومرجعياتها الفكرية والوجدانية، وخصوصياتها الإثنية والحضارية، وفي الصميم تكرس الهيمنة الغربية الإمبريالية على تلك المستعمرات والمحميات. هذه النخب التي تعشق الجلدة البيضاء وثقافتها، وتقدم خدماتها وخبراتها مقابل نيل الرضا والمكاسب الأخرى، التي لا تخرج عن مكاسب شهوانية المال والسلطة، مقابل عرقلة أوطانها عن النمو الحقيقي والرفاه والتقدم العلمي والصناعي والتحرر النهائي من ربقة الاستعمار والتبعية له.
نخب مثل المستعمر تشعر بالازدراء لشعوبها المسحوقة، وتتعإلى على ثقافته ومشاعره ومعتقداته، بل تتهكم منها، ترطن بلغة المستعمر وتشعر إزاءه في الوقت ذاته بعقدة النقص فهو معشوقها وجلادها، فهي لا تتوانى عن الاعتقاد بأن الثقافة الحقيقية هي ثقافة المستعمر، وبأن المثقف الحقيقي هو الذي يعتنق المركزية الغربية في كون الجذور الحقيقية للفكر الإنساني والإبداع الفكري هي الجذور الإغريقية، وأن ما عدا تلك الجذور، هو انحطاط وظلامية، بل همجية لا ترقى إلى حضارة الإغريق وتشريعات روما القديمة، ولذا ترهق نفسها في تقليد جلادها وتقدم فكرا هجينا وأدبا مصطنعا وسياسية تبعية عرجاء وربما منَّ عليها، كما يقول ساتر، المستعمر بجائزة مثل الجونكور مثلا.
كتاب فانون «معذبو الأرض» الذي قدم له الناشر مركز مدارات للأبحاث والنشر جاء فيه «هذا الكتاب في العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر في كيفية إشعال الثورات من أسفل، في كيفية المحافظة على الثورات من تلاعبات الاستعمار والنخب المحلية الخاضعة له، ورغم أن فانون كتبه لثورات التحرر الافريقي والآسيوي من الاستعمار القديم، إلا أننا رأينا بعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه الثورات، أن الأوضاع الاستعمارية لم تتغير كثيرا، وأن ما جرى على الحقيقة أن استبدل الاستعمار المباشر ذي الكلفة المادية والبشرية، باستعمار محلي أقل كلفة وخاضع تماما لقوى الاستعمار السابقة، وترتبط مصالحه الثقافية والسياسية والاقتصادية بها، داخل إطار من ديباجة النعرات القومية والأقلية والقطرية الضيقة المصنوعة أساسا بواسطة جهاز الاستشراق».
لاحظ ماركس مثلا أن الفلاحين لا يمكن أن يثوروا على المستعمر بسبب ميلهم إلى المحافظة – وقد كان مخطئا – ولا البيروقراطية التي شكلها الاستعمار، والتي هي خادمة له ومن ضمنها الأحزاب التي تشكلت أثناء الحقبة الاستعمارية، إنها أحزاب السمسرة والعمولة على حساب السيادة والحرية الكاملة يقول الدروبي: (إن هذه الأحزاب لا تدعو إلى العنف لأنها لا تهدف إلى قلب الأوضاع التي أنشأها الاستعمار رأسا على عقب، ولا تطمع في أكثر من استلام الحكم من يد المستعمر كل ما تريده أن تفاوض المستعمر وتنتهي معه إلى تسوية، إن البورجوازية الوطنية تخشى النتائج التي يمكن أن تنجم عن هذا الإعصار الجبار تخشى أن تكنسها هذه الروح العاصفة فلا تفتأ تقول للمستعمر: ما زلنا قادرين على أن نوقف المذبحة فالجماهير ما تزال تثق فينا أسرعوا إذا كنتم لا تريدون أن تعرضوا للمخاطر كل شيء).

يدين فانون ما يسمى بالنخب المثقفة في المستعمرات تلك التي تتصيد المراكز والرضا عنها من قبل جلادها، ويهيب بالمثقف الطليعي أن يحارب مع شعبه بعضلاته قبل أن يتصدق عليها بفضلات يسميها إنتاجا أدبيا وثقافيا وعلميا فلا ثقافة لأمة إلا في إطار حريتها وسيادتها، وهذا ما عناه سارتر تماما حين قال: (منذ زمن غير بعيد جدا كان عدد سكان الأرض مليارين منهم خمسمئة مليون من البشر ومليار وخمسمئة مليون من السكان الأصليين، فالأولون يملكون الكلمة والآخرون يستعيرونها وبين هؤلاء وأولئك ملوك صغار مشترون وإقطاعيون وبورجوازية زائفة ملفقة تلفيقا).
إن البورجوازيات العربية مثلا فشلت في مشروع التنوير، فلم تتقدم المجتمعات العربية قيد أنملة في مسار التقدم العلمي والفكري، وفي المضمار السياسي حيث التداول على السلطة وتكريس الديمقراطية الحقيقية التي هي لب الحياة الغربية الحديثة ـ رغم نقائصها- بل بالعكس زادت تبعية البلاد العربية للمستعمر، وأجهضت المسارات التقدمية والديمقراطية إلى درجة الإخصاء الفكري والسياسي والعلمي والأخلاقي، وكراسة الإنجازات العربية لا يدون فيها إلا إنشاء المحتشدات والسجون والقمع، واختزلت الأخلاقيات والبرامج الدراسية في تكريس ثقافة سطحية تهتم بالقشور والتربح الفردي والسمسرة الفكرية، وظهرت تلك البورجوازيات الناشئة من العدم القابضة على زمام الثروة والسلطة كوسيط لا قيادة روحية وفكرية وعلمية في مسار التقدم والتحديث، تنازلت في سوريا عن لواء الإسكندرونة عام 1936 لصالح تركيا مقابل الامتيازات الشخصية، وسلمت فلسطين لمصيرها المأساوي، مقابل الاستفراد بثورة النفط لصالحها ولصالح أسرها وبناء مجتمع استهلاكي هش همه الشهوات والسطحية والتبعية.

يمكن القول إن هذه المقدمة النارية لكتاب فانون، تعد قطيعة مع التعالي الغربي، وسارتر يقول للغربيين هو كتاب يتحدث عنا وليس إلينا، فنحن لا حديث معنا إلا بالعنف، أما لغيرنا فلفضحنا وتعريتنا أمام العالم، نحن أصحاب رسالة التحضير والمركزية الأوروبية خلاص العالم الحديث كما يروج له.

من يقرأ هذه المقدمة التاريخية لسارتر تتوإلى على خاطره كتابات رائدة لمفكرين عرب وغربيين تؤيد هذا الطرح السارتري، ففي كتاب مالك بن نبي مثلا الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، تقاطعات مع مضمون المقدمة السارترية التي لم تر في هذه البورجوازيات إلا تقززا من رائحة المواطن الأسود مثلا ـ في افريقيا، أو تهكما مراً من عادات وتقاليد وحتى الدين في المجتمعات العربية، تمثيلاً لا حصراً، في حين يتخلى الإعلام عن دوره في الإعلام وتتخلى الأقلام عن دورها في رعاية سياسة الحقيقة وروح التفكيك والتعرية والفضح لأشكال السلطات الواقفة وراء الستار ولا تعدو الصناعة أن تكون شكلا آخر من أشكال الملكية الزراعية والسخرة، إنها إذا سمسرة وعمولة لا ريادة وتطويرا.
يمكن القول إن هذه المقدمة النارية لكتاب فانون، تعد قطيعة مع التعالي الغربي، وسارتر يقول للغربيين هو كتاب يتحدث عنا وليس إلينا، فنحن لا حديث معنا إلا بالعنف، أما لغيرنا فلفضحنا وتعريتنا أمام العالم، نحن أصحاب رسالة التحضير والمركزية الأوروبية خلاص العالم الحديث كما يروج له، إنه فضح منهجي وفكري وتعرية للخلفيات الرابضة حول مزاعم رسالة التمدين والتحديث التي يضطلع بها الغربي في مجاهل افريقيا وصحراء العالم العربي، التي سبق للأديب الفرنسي أندريه جيد أن فضحها وتبرأ منها، كما ذكر ذلك العقاد في مقاله حول أندريه جيد. بورجوازية أحدثت شرخا في المجتمع مجتمع المدينة، حيث لغة المستعمر هي السائدة ونمط الحياة المتأثر بالثقافة الغربية وبيروقراطيات لا تختلف عن البيروقراطية الاستعمارية، في حين تتشكل القرى والأرياف العربية من السكان الأصليين، حيث اللغة الأم هي السائدة، وحيث نمط الحياة يمثل تهكم واحتقار تلك النخبة.
يتفق سارتر مثلا مع المستعرب الألماني توماس باور في القول، بأن تلك البورجوازيات فشلت في مهمتها، بل كانت بلا مهمة أصلا اللهم إلا مصالحها الشخصية وامتيازاتها الخاصة، وسبق لسارتر أن وصف باتريس لوممبا بـ(الثائر بلا ثورة) هذا الوصف يحيل على صعوبة التحرر في وجود طبقة من العملاء من بني جلدة الثائر نفسه، وكان الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد قد عبر عن ذلك بحسه الفطري عن ظلم ذوي القربى:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضــة
على النفس من وقع الحسام المهند
يمكن الرجوع إلى الخلفية السيكولوجية لشعوب العالم الثالث في تعاطيها مع حكامها وإعلامييها ورأسمالييها وأدبائها، إنها لا تثق فيهم وتعتبرهم من طبقة غير طبقتهم، ولذا لا مصداقية لطروحاتهم حتى إن كان بعضها صادقا لأن الجسر السيكولوجي المبني على الثقة غير موجود، وهي ترى تلك الطبقة تعيش وتتكلم وتفكر بلغة وعقلية المستعمر، ولذا باءت مشاريع البورجوازية وأحزابها بالفشل الذريع، وتكسرت أقلام كتابها وانفض الجمع من حول إعلامييها ما دامت لا تمتلك المشروعية لتمثيل أحلام تلك الشعوب. وإلى اليوم تعيش شعوب العالم الثالث أو النامي في افريقيا والعالم العربي خاصة، الوضع نفسه، إن نخبتها الثقافية بلا فاعلية ولا تأثير ومتصارعة بينها، تبحث عن الريع والنجومية والسلطة والثراء وتغازل النظام الحاكم، في حين لا ينال مبدأ التناوب على السلطة وحق الأمم في الإشراف والاستفادة من ثرواتها الوطنية، ورفعة وتطور المنظومات التربوية وفعالية قطاع العدالة، وشفافية الإعلام والتنمية العادلة بين الأرياف والمدن، والمساواة في الفرص وشطب المحسوبية والانتهازية والقبلية والعصبيات من قاموس تلك المجتمعات والاعتماد على الكفاءة وحدها والمهارة والمردود، كل هذا لا ينال اهتمام تلك النخبة الزائفة وتنصرف بفعل التوجيه الاستعماري إلى مشاكل ثانوية، ومن يفعل ذلك يكون مصيره الإقصاء والنبذ ويحرم من التغطية النقدية والصحافية والإعلامية وجوائز الاستعمار وحوافزه، التي يدخرها لمن يخدم مخططاته فقط.
إن مقدمة ساتر وكتاب فانون خريطة طريق للشعوب الافريقية والآسيوية والعالم العربي في ضرورة استكمال التحرر النهائي من ربقة الاستعمار والتبعية والتخلف عبر أنظمة ديمقراطية وطنية تمثل الشعب لا الإقطاع السياسي والثقافي والاقتصادي، الذي ما زال للأسف يمسك بخناق هذه الشعوب، وما صندوق النقد والبنك العالمي ونادي باريس إلا آليات يستكمل بها إحكام القبضة على مستقبل تلك الشعوب، ورهنا نهائيا لعولمة ظالمة إمبريالية غير إنسانية.

إبراهيم مشارة

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
جريدة نبض الوطن