عُمان بين فضاءين
في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تنازعت عُمان ثنائية فضاءين يقوم كل منهما على مكانين مختلفين، فضاء الإمامة، وفضاء السلطنة. ظل هذان الفضاءان يطبعان الحياة الاجتماعية والسياسية في عُمان طول فترة من الزمن. فما هي حكايتهما؟
بدأ هذان الفضاءان يبرزان بقيادة جناحين مختلفين من أبناء المؤسس لدولة البوسعيدية الإمام أحمد بن سعيد، فضاء يمثل الجناح المعتدل بقيادة ابنه سلطان بن أحمد، والفضاء المحافظ بقيادة ابن آخر له هو قيس بن أحمد.
الفضاء المعتدل ومكانه دولة الساحل القائمة أصلا في مسقط، واتخذها عاصمة لعُمان بعد أن نقلها من الرستاق، وتلقب بالسيد وأصبح أول حاكم يتخذ لقب السيد.
في عمان الساحل والموانئ والمدن الساحلية العريقة ظهرت مدن مسقط وصحار وقلهات وصور ومرباط وطاقة في الجنوب، وهي المدن التي رسمت ملامح عمان وتاريخها البحري وتجارتها البحرية على مرّ التاريخ، وامتد أسطولها البحري لما وراء البحار والمحيطات، خصوصا في ذروة قوة عمان في عصر السيد سعيد بن سلطان، الذي امتدت عمان في عصره إلى سواحل شرق افريقيا وأسس مملكة هناك. فكانت مدنا نابضة بالحياة، وهي التي أثارت شهية القوى الاستعمارية من البرتغاليين في القرن الرابع عشر إلى الهولنديين والفرنسيين فالإنكليز حتى أواخر القرن العشرين.
وفي المقابل فضاء المحافظين، وتتكون طبيعياً من المدن الداخلية الأقاليم الداخلية ومدنه نزوى، سمائل، الجبل الأخضر الرستاق، وغيرها من المدن التي تقع في الداخل.
تعمق هذا الانقسام، بعد وفاة السيد سعيد بن سلطان عام 1856. وابتدأ رسميا بالتدخل الإنكليزي في تقسيم الإمبراطورية العُمانية، عقب توصيات لجنة اللورد إيرل كاننج (الحاكم العام البريطاني في الهند) عام 1861، إلى قسمين تحت حكم أبناء السيد الذين أطلق عليهم لقب سلطان، القسم الآسيوي تحت حكم ثويني بن سعيد يحكم عُمان وعاصمتها مسقط، والقسم الافريقي ويحكمه ابنه الآخر ماجد بن سعيد وعاصمته زنجبار. وتولد على أثره الصراع القديم بين الجناحين، ووصل إلى ذروته في عام 1868 بسيطرة المحافظين على مسقط وإعلان العودة إلى نظام الإمامة وتكوين دولة إمامة بقيادة الإمام عزان بن قيس عام 1868، بما عرف بثورة المحافظين، لكن سرعان ما سقطت تلك الإمامة في عام 1871 وجاءت حكومة معتدلة بقيادة السلطان تركي بن سعيد، لكن الأمور لم تستقر، وظل هذان الفضاءان، سمة لتاريخ عمان الحديث، لغاية الربع الأخير من القرن العشرين. عندما سيبعث نظام الإمامة مرة أخرى، بانتخاب سالم بن راشد الخروصي إماماً في عام 1913، وتكرس هذا الانقسام عمليا بين الفضاءين بعقد اتفاقية السيب التي حددت العلاقة بينهما، وأصبحت البلاد مقسمة بين ما يشبه كيانين.
دولة الساحل مثلت الانفتاح والتحرر، بحكم ما تحمله الشواطئ وموانئها من تبادل وانفتاح على العالم الخارجي، فاشتهرت مدينتا مسقط ومطرح، وتحولت مسقط إلى ما يشبه مدينة كوزموبولوتية عالمية يسكنها خليط من الجنسيات والشعوب، تجد الهنود التجار، الذين استوطنوا مسقط منذ القرن الرابع عشر. يصف أحد القناصل الأوروبيين المقيمين في مسقط خلال الربع الأخير من القرن العشرين، بأنها مدينة يقطنها خليط من الشعوب والأديان، يقطنها العرب أبناء البلد الأصليون، والتجار الهنود المقيمون، يتجول في أسواقها الأوروبي والإثيوبي والأفغاني والبلجيكي تجار الأسلحة. وكانت أسواقها عامرة بالبضائع، موانئها مزدحمة بالسفن والأساطيل، مدينة تمثل نقطة ارتكاز في التجارة بين الشرق والغرب.
اقتصاديا ازدهر في الداخل نمط إنتاج يقوم على الإقطاع المتمثل في الشيوخ مالكي الأراضي الزراعية الشاسعة. والمكان الأكثر قبلية والتزاما ومحافظة على تعاليم الدين، المكان الذي ظل لفترات طويلة نقيا لا تشوبه أي شائبة محافظاً على تقاليد الدين والعادات والتقاليد وأكثر تمسكاً بها، مجتمعه يميل أكثر إلى الانغلاق والمحافظة.
أما عُمان الداخل نزوى، عاصمة الدولة العُمانية عبر التاريخ، المعقل التقليدي للإمامة الإباضية، وبؤرة الحركات المضادة للحكم في مسقط، مدينة العلم وبيضة الإسلام، كما يطلق عليها، وعروس الداخل العُماني ومدنه المتناثرة على السهول وهضاب الجبال، فمدن عريقة كان لها الوقع في التاريخ العُماني.. مدن عامرة أسواقها هي الأخرى، مزدهرة لا ينقصها شيء، يحكم الداخل نظام سياسي يقوم على الإمامة الإباضية، واختيار الإمام من الفقهاء ورجال الدين، وهو نظام إلى حد ما يشبه النظام الديمقراطي، في اختيار رؤساء الدول. ظلت هذه المدن البعيدة عن الشواطئ تحت نظام حكم الإمامة المذهبية الإباضية، ويعزى لها تكوين الدولة في عُمان، التي شكلت هي الأخرى ملامح عُمان سياسياً ودينياً ومذهبياً، فكانت هي المكان الأول الذي تأسست فيه الدولة العمانية المتعاقبة، منذ الإمامة الأولى مروراً بدول النباهنة والدولة اليعربية، ثم الدولة الحالية دولة البوسعيد، ثم تطور هذا المكان فأصبح يمثل عمان المقاومة الثورية التي قامت فيها ثورات ضد الساحل وما ارتبط بها من المستعمرين الغربيين، خصوصا الإنكليز، وكان المكان الباعث على الاستقلال والمؤسس للدولة العُمانية عبر العصور، وهو المكان الثوري الذي قارع المستعمرين والمتعاونين معهم، وقامت منه كل الثورات العُمانية.
اقتصاديا ازدهر في الداخل نمط إنتاج يقوم على الإقطاع المتمثل في الشيوخ مالكي الأراضي الزراعية الشاسعة. والمكان الأكثر قبلية والتزاما ومحافظة على تعاليم الدين، المكان الذي ظل لفترات طويلة نقيا لا تشوبه أي شائبة محافظاً على تقاليد الدين والعادات والتقاليد وأكثر تمسكاً بها، مجتمعه يميل أكثر إلى الانغلاق والمحافظة. وعلى الرغم من أن الفضاءين لم يفضيا إلى ما يشير إلى انقسام، ورغم أنهما متباعدان إلا أنهما متناغمان، المشترك بينهما أكثر من المختلف، وهو كذلك في الحقيقة، ورغم أنهما فضاءان طبيعيان أفرزتهما الطبيعة وجيوغرافيتها، إلا أن استخدامهما كان لأغراض مختلفة تماما، سياسية أيديولوجية. المشتركات التي تجمعهما هي أن الفضاءين يحكمهما المذهب الأباضي بجناحين مختلفين، الجناح المتشدد كما أطلق عليه الغربيون بقيادة الأئمة الإباضيين، والجناح الليبرالي المعتدل بقيادة السلاطين، وكلاهما من أسرة البوسعيديين في النشأة على الأقل. المشترك الآخر بينهما، هو رغم توقيع اتفاقية السيب لاحقاً بينهما، إلا أن ذلك لم يفضِ عن سيادتين منفصلتين أو ترسيم حدود وتقسيم الأراضي بين الإمامة والسلطنة، وظل الانسجام يطبعهما لدرجة أنه عندما مرض الإمام محمد الخليلي أرسل له السلطان سعيد بن تيمور طبيبه الخاص لعلاجه، وأكثر من ذلك، اقترح بعض الشيوخ رغبة منهم في توحيد البلاد على السلطان سعيد بن تيمور أن يتخذ لقب إمام بعد مرض الإمام محمد الخليلي، الذي كان آخر الائمة الأقوياء، وبوفاته بدأت علامات الوهن والضعف تظهر على الفضاء المتشدد، رغم المحاولات لاكتساب اعتراف إقليمي ودولي.
وبحلول عام 1955 عندما استطاع السلطان سعيد بن تيمور توحيد الفضاءين ودمجهما تحت اسم سلطنة مسقط وعُمان، على الرغم من بقائهما اسمياً. وفي عام 1970 وصل السلطان قابوس بن سعيد إلى الحكم وأسس دولة عُمان الحديثة، عمل على تغيير أشياء كثيرة، وبعد توحيده البلاد والقضاء على الحركات المتمردة عمل على خلق فضاء واحد يتسع للجميع بمسمى سلطنة عُمان.
كاتب عماني