لزوجة الجماعات وخشونتها : التوتر الحيوي والمستدام
يعجّ عالمنا بحالات لا حصر لها تجد فيها الجماعة الإثنية أو الإثنو – دينية أو القومية وهي متصلّبة، جلفة، لجهة الإعلاء من قيمة ما يعتقده المنتسّبون لها على أنّه كفيل بشدّ الأزر وتوطيد العصبة بينهم.
يأتي ذلك بحيث أنّ جواب هؤلاء على سؤال «من نحن؟» يستدعي مباشرة الاشتباه عندهم بعلامة الاستفهام نفسها والإسراع إلى حذفها. تحضر «النحن» إذاك بلا كيف. كما لو أنّها المعطى الأوّل.
أو بمعنى آخر، يظهر منحى رفضي لاعتماد أي منظار للسواسية والمعاملة بالمثل مع «النحن» التي للآخرين. فالجماعة تكون حينها هي «الجماعة» على وجه الإطلاق، بحيث تتعطّل المقايسة بينها وبين سواها. كما لو أنّ «النحن» محصورة بالنحن خاصتها فقط، فيما الآخرون مجرد «هم». ليس أكثر. ولا «نحن» لهم. هي الذات وهم موضوعاتها. «هم» مرايا لوجهها هي. هم ظلالها. قيمتهم عندها بحسب قدرتها على التعرّف على محيّاها في كل واحدة من هذه المرايا، بالشكل الذي يوافقها ويروق لها، بخاصة إن كان لشأوها ما يسنده من كثافة سرد وحماسة خطاب، ومن جاه ومراس وقوة تغلّب.
في الوقت نفسه، الجماعة نفسها، المتبخترة بكل طاووسية بين السرديات المحببة، والمتمايلة بين ما تتوسطه لنفسها من مرايا، تراها وقد انقلبت مرهفة الأحاسيس والمشاعر بشكل سريع وسهل الاستثارة حين لا يقف الغير على خاطرها، ولو لم يحدث الأمر جهاراً، بل أن أكثر ما هو كفيل بامتحان مشاعرها وإقلاقها هو المُضمَر وحمّال الأوجه من إشارات وعلامات.
متصلبة الجماعة حين يتعلق الأمر بالإنصات الى شعور سواها، ومرهفة فوق العادة حين يتعلق الأمر بما تنتظره من استشعار الآخرين بحالاتها ونوباتها.
الجماعة نفسها، المتبخترة بكل طاووسية بين السرديات المحببة، والمتمايلة بين ما تتوسطه لنفسها من مرايا، تراها وقد انقلبت مرهفة الأحاسيس والمشاعر بشكل سريع وسهل الاستثارة حين لا يقف الغير على خاطرها
هذا المركّب الذي يغذّي فيه الشعور المُرهَف المبالغ فيه النزوع الانطوائي الاحترازي ثم يعود الأخير ليتصلّب بشكل عدواني، هذا المركّب الذي يجمع إذاً بين الحساسية المفرطة في جانب وانعدام الحساسية بشكل فظّ في جانب آخر، لن تجد جماعة إثنية أو إثنو – دينية واحدة في عالمنا اليوم وقد برئت منه، وإن لم يحضر بالشكل نفسه ولا بالوضوح نفسه.
عدم القدرة على الشعور بالآخرين من خارج الجماعة إلا كمرايا قريبة أو بعيدة لهذه الجماعة ليس بالأمر الذي يمكن أن تبعده عنها أي جماعة بموقف إرادوي أو بجرٍة قلم.
ما بالمستطاع في المقابل فعله هو تهذيب هذا الأمر، وتخليطه بسواه، والتصالح مع القلق نفسه على أنه مكوّن لنون الجماعة بشكل يقلل من اعتمادها على التأرجح المرهق بين الحساسية المفرطة وبين انعدام الحساسية السمج.
تشارك جماعات من تصاميم ومضامين وأحجام شتى في هذا المركب الثنائي القطبي المُرْهِق لكل «نحن» ولكل «غير» هو مدخل أساسي لمقاربة موضوع الهويات ولزوجتها وانتفاخها. إلا أنه ليس بالمدخل الذي يمكن معه التوهّم بأن معالجة مشكلة لزوجة وانتفاخة الهويات يكون بالتجرّد منها. هذا التجرّد من الهوية هو جزء من عدّة نصب لم تعد تنفع. لا يمكن المكابرة طول الوقت على إلحاح الهويات واغراءاتها ومسوّغاتها. لم ينفع هذا إلا لزيادة منسوبها من اللزوجة، وبالنتيجة لزيادة معدّل انتفاختها. التدبّر بشكل أفضل حيال الهويات لا يكون بالمكابرة على سؤال «ما نحن؟» الذي تطرحه كل جماعة على نفسها. إنما يكون بإعادته لها كسؤال. بإرجاع علامة الإستفهام له. «النحن» ليست وهماً، وإن لم تكن معطى جوهريا لا يزيد ولا ينقص. لأجل ذلك، الخطاب الذي يتعامل مع الهويات، إثنية ودينية وقومية وحضارية، على أن النهج الأفضل حيالها يكون بتذكيرها بأنها مجرّد تراكب وأخيلة نسجتها بضعة أجيال في العصر الحديث ليس إلا وليس أكثر، هو خطاب لا يمكن أن يذهب بعيداً لا في النظر ولا في العمل.
التعامل مع الهويات إجمالاً كما لو أنها مجرد تراكيب موضّبة حديثاً وبالمستطاع بعثرتها عند اللزوم بمجرد الفطن الى طبيعتها التركيبية المتخيلة يا محلاه التعامل معها كما لو أنها مطابقة لحقائق فوق نقدية، ثابتة راكزة رغم تعاقب الأحقاب وتبدّل الأحوال.
ثم أن الهويات ليست فيسفساء كونية من الاختلافات الرحبة والمريحة. هذا صحيح. تعتمل فيها الأحقاد وتستند الى مخزون لا ينضب من اللاسواسية والشوفينية. لكنها كذلك الأمر لا تختزل في هذا فقط. كل فرد منا هو نقطة تداخل بين عدد من الانتماءات الطوعية وبين عدد من الانتماءات اللاطوعية. المكابرة فقط هي التي تجعل البعض لا يرى هذه الأخيرة. هذه الانتماءات اللاطوعية هي الأكثر تحفيزاً لتشكيل رابطة الجماعة «النحنية»، أيا كان ثقل هذه النحن أو مداها.
افتراض أن هذه الانتماءات اللاطوعية جبرية فقط، كمثل افتراض أنها مفبركة فحسب. في هذين الحدّين شطط.
لا شك أن الانتقال من النظر الى الجماعات كما لو أنها ثوابت راكزة الى رؤيتها كانشاءات حديثة العهد كان تقدماً في اتجاه منظار سوسيو – تاريخي. إلا أن الإكثار من هذا التفسير «التركيبي الحديث» للعلاقات والروابط له مضاره كذلك الأمر، حين يُكتفى به كمنظار أحادي.
خذ مثلا الدراسات حول القومية. هذه عرفت لحظة أساسية حين أصدر بندكت اندرسون كتابه حول «الجماعات المتخيلة»، وما تضمنه من النظر الى الأمم القومية على أنها ظواهر حديثة ما كان بالمستطاع بلورتها قبل شيوع الطباعة والتلغراف وسكة الحديد والمتحف والمدرسة الحديثة. والأمة عنده جماعة متخيلة لأن كل من يعتبر نفسه جزءاً من الأمة يمارس رابطة الأخوة القومية مع سواه ممن يجهلهم بالمفرد ضمن هذه الأمة. يعرفهم فقط بالتخيل. ما أحدثه اندرسون كان نقلة في اتجاه الابتعاد عن النظرة الارجاعية للأمم الحديثة الى أصول لها غابرة وطاعنة في القدم. في الوقت نفسه، الدراسات حول القومية، والتصورات حول مفهوم الجماعة بشكل عام لم يبق هنا. لم تُغلَق الأبواب من بعد اندرسون. جاءت أعمال انطوني ديفيد سميث في الاجتماع التاريخي لتميز بين كون الأمة القومية ظاهرة حديثة وبين كون الجذور الإثنية السابقة للحداثة هو ما يجري صناعة الأمة الحديثة انطلاقاً منه، وليس من التخيل والتركيب هكذا بالمطلق.
ومن بعد سميث جاءت أعمال تلميذه جون هاتنكسون لتسبر الأمم كمجال تنازعي. الأمم عنده ليست تراثاً مستحدثاً كما فكّر اريك هوبسباوم. ولا هي جماعة متخيلة ليس الا اذا ما استعدنا اندرسون. هي ليست مبنية فقط على الجذور الإثنية بل على تراكم من الصراعات بين هويات لم تكن بالضرورة تبحث عن بناء الأمة بالمفهوم القومي الحديث، هويات بعضها كان يطرح نفسه كامبراطوري وبعضه كإثني وطبقي ومناطقي. لكن نتيجة هذا الصراع كان ولادة أمة.
وهذا يحضر جلياً في مثال اليونان. ما نعرفه اليوم على أنه ثورة الاستقلال اليونانية لعام 1821 لم يكن بهذا الوضوح سنتها. أريد لها في البدء أن تكون ثورة ملة الروم ككل في السلطنة. ويومها كان البلغار والأفلاق والبغدان والصرب في ملة الروم ولم تستحدث لهم كنائس منفصلة عنها بعد. ولم يكن بالمستطاع التفريق بين نفر من هذه الملة في اسطنبول أو صالونيك أو في ازمير أو في الشام. لكن، بالنتيجة، لم يثر المسيحيون الارثوذكس جميعهم في السلطنة، أو أفلحت السلطنة في اخماد ثورتهم في مناطق دون مناطق، وبالنتيجة فإن ما أريد له أن يكون ثورة الروم ككل تحول الى ثورة المورة جنوبي البلقان فحسب، والى انفصال بين مفهومي «الروم» و»اليونان» لم تتمكن اليونان الحديثة من تجاوزه بشكل نهائي الى اليوم.
ليس بالتخيل وحده ولا بالتركيب وحده تقوم الهويات والجماعات. بالذاكرة أيضاً. وليس بالذاكرة الهادئة فقط. انما بتراكم النزاعات فيها وبالنزاع عليها. التوتر الذي يعتمل في قالب كل جماعة ليس أبداً بدليل على سهولة فرطها إن نحن كابرنا على الهوياتية، أو اختزلنا الجماعة الى تخيل أو تركيب. هذا التوتر يجعلها صعبة المراس بلا شك. يجعلها عديمة الحساسية ومفرطة فيها في الوقت نفسه. لا شك. لكنه توتر حيوي لا يترك مجالاً جدياً للبراء من الهويات بالمطلق.
القدس العربي