لماذا يهتم التونسي بالجزائر والمغرب؟
قد يبدو السؤال غير منطقي بالمرة، وقد يسارع البعض ليقول وما المانع في ذلك؟ لكن الجواب قد لا يكون سهلا وبديهيا، فالسياسيون مثلا حين ينظرون من أكثر من زاوية قد يرون أن تونس التي حشرت بين عملاقين، من حيث المساحة على الأقل وهما ليبيا والجزائر، لا تستطيع وبالنظر للعامل الجغرافي وعوامل أخرى أن تدير ظهرها ولا تهتم بما يجري بين جنبيها.
والاقتصاديون ورجال المال والأعمال قد يعتبرون في المقابل أن ضيق السوق التونسية هو ما قد يدفعهم للتطلع أكثر والبحث عن مشاريع أو أسواق تبدو على مرمى أبصارهم، لكن هل يحتاج الكاتب والصحافي، إن سئل عن المبرر الذي يجعله يكتب عن جيرانه، أن يرد ويقدم للمعنيين بالجواب صك براءة من كل ما قد يلحقه من نعوت واتهامات مغلوطة جراء ذلك؟
هناك خلل منهجي جعل كل دولة مغربية، منذ مغادرة المستعمر وتحت مسمى بناء الدولة الوطنية تغلق حدودها وتدخل قوقعتها الخاصة وتعامل جيرانها معاملة الأجنبي
في الواقع المحزن والكئيب الذي تعرفه العلاقات المغاربية، ربما لن يكون مستغربا، وبكل أسف أن يحصل ذلك، وأن لا يحسب مثل ذلك الاهتمام للصحافي، بل يكون على العكس تماما قرينة إدانة له. لكن السؤال هو ما الذي جعل المغاربيين يسقطون إلى ذلك الدرك الأسفل من القطرية والشوفينية المقيتة؟ وهل أنهم يحصدون اليوم بالفعل ما زرعه آباؤهم وأجدادهم من بذور فرقة وشقاق وخلاف ترسبت تحت التراب منذ أكثر من ستين عاما من الآن، حين أعلن عن استقلال دولهم وجلاء المستعمر عنها، ولو شكليا على الأقل، من دون أن توضع وبالموازاة معها أي خطة أو برنامج عملي وواقعي للاندماج القريب في ما بينهم؟ أم أن كل ما يجري هو من فعل قوى خارجية تآمرت ضدهم ولم تكن تريد تقاربهم واتحادهم، كما أنه أيضا من صنع أيديهم، والنتيجة الحتمية لسوء تصرفهم وقلة وعيهم وفهمهم لإرث آبائهم وأجدادهم، ولمغزى كل ما بذلوه من تضحيات مشتركة لطرد المستعمر أولا، ثم العيش بعدها داخل كيان مغاربي واحد؟ لطالما سمعت أو قرأت من يقول وباختلاف الصيغ والعبارات، إنه لا يفهم كيف يمكن لتونسي أن يكتب وبشكل شبه دائم تقريبا عن جيران بلده وبوجه خاص عن الجزائر والمغرب، وإن الأحرى به بدلا من أن يحشر أنفه في ما لا يعنيه، أن يهتم فقط بما يجري داخل تونس فيريح، على ما يبدو كثيرين، ويستريح. والمرارة التي كنت أشعر بها كلما قرأت أو سمعت مثل ذلك الكلام لم تكن ترجع فقط إلى أن أصحابه كانوا يتقصدون من ورائه الإهانة والتجريح الشخصي بكيل الاتهامات الباطلة والادعاء بأن ذلك لم يكن وليد قناعة أو اختيار حر، وإن الغاية منه هي تلميع وتجميل نظام مغاربي مقابل الإساءة لآخر، بل لأن مجرد تكرار مثل ذلك السؤال كان يعطي الدليل الذي لا لبس فيه على أن داء الفرقة والانقسام قد سرى وتغلغل في جميع مفاصل الجسد المغاربي الواحد، بشكل كبير وخطير باتت معه محاولات السيطرة عليه صعبة جدا ومعقدة للغاية، وربما تتطلب حتى شبه معجزة. وقد يعتقد البعض أن في ذلك نوعا من المبالغة والتضخيم، وأن الأمور على ما فيها من سوداوية وقتامة لم تصل بعد إلى تلك الدرجة، لكن إن كان مؤكدا الآن أن الزمن الذي كانت فيه حدود دول المغرب مفتوحة على بعضها بعضاً، وكان باستطاعة أي فرد من أفرادها أن ينتقل، أو يعمل، أو يعيش في أي بلد يختاره من البلدان الخمسة قد ولّى وانقضى، فإنه من الواضح أيضا أن زمنا آخر قد انتهى بدوره، وهو زمن المطالبة بفتح الحدود والدعوة إلى التعاون والتكامل بين الأقطار المغاربية ليحل محله عصر ثالث يلوح أكثر سقوطا وانحدارا من سابقيه بات فيه حتى مجرد إطلاق مثل تلك الدعوات أمرا مستهجنا ومستنكرا وباعثا على إثارة ردود فعل عكسية وهجومات تصل حد وضع من يحاول القيام بذلك في قفص الاتهام بشتى السقطات والتجاوزات، من قبيل الادعاء بالانحياز إلى طرف في المنطقة دون الآخر. ومن المؤكد أن المشهد السريالي الذي يعيشه الشمال الافريقي اليوم لم يتشكل مرة واحدة. لكن هل كان محصلة لماض مثقل بالآلام والعصبيات؟ أم انه ليس في الواقع سوى مقدمة مرّة وحزينة لمستقبل يبدو أكثر قسوة ومرارة؟ وبمعنى آخر، هل أن الأجيال السابقة، كانت المسؤولة الأولى عن وضع لم يقدر خلفاؤها على امتلاك شروط تغييره؟ أم أن الخلف وعلى العكس هم من انفصلوا عما وصله وقواه السلف بين تلك الشعوب من أواصر وروابط قربى واشتراك في وحدة المصير؟ إن المشكل الأساسي قد لا يحصر كما يبدو للوهلة الأولى في وجود تناحر أو صراع كلاسيكي بين الأجيال، بل في عدم قدرة المغاربيين جيلا بعد آخر على فهم التاريخ واستيعاب الجغرافيا. فهناك وبلا شك خلل منهجي فادح جعل كل بلد من بلدانهم، ومنذ مغادرة المستعمر له وتحت مسمى بناء دولته الوطنية يغلق حدوده في وجه الآخر، ويدخل قوقعته الخاصة ليعامل جيرانه الأقربين معاملة الأجنبي، بل ربما حتى في عدة مرات أدنى وأقل منها بكثير. وقد يخطأ من يعتقد أن ذلك قد حصل فقط لأن أنظمة الحكم أو توجهات الحكومات المغاربية كانت مختلفة، أو متعارضة في ما بينها. فالسياسات الليبرالية والاشتراكية التي عرفتها المنطقة لم تشجع، على السواء، على أي شيء آخر أكثر من أن يتمترس كل قطر مغاربي وراء حدوده ويقطع الطريق على أي تقارب فعلي قد يحصل مع جيرانه، بل ينظر له بنوع من الريبة والقلق. وما حصل، أن كل دولة من الدول الخمس ألقت وبكل بساطة بالتاريخ المشترك للمنطقة في سلة النسيان. وتجاهلت حقيقة أن وجودها داخل حيز جغرافي واحد سوف يفرض عليها، رغم التباين الشديد أحيانا في حجم ثروات أو موارد كل واحدة منها، أن تتبنى لا فقط سياسات تشجع على التعاون الثنائي، أو الخماسي فحسب، بل تقوم على فكرة التكامل والاعتماد المتبادل في ما بينها. وهذا ما جعل كل قطر مغاربي يصوب أنظاره بعيدا، إما إلى الشرق، أو إلى الغرب من دون أن يكلف نفسه عناء النظر لأقرب منهما، لكن هل ما زال ممكنا تدارك ذلك؟ أم أنه لم يعد هناك أي وقت للمراجعة؟
من ينظر للخلافات العميقة بين الأقطار الخمسة، وحال العلاقات بين أكبر بلدين مغاربيين، أي الجزائر والمغرب سوف يشعر لا محالة بكثير من اليأس والقنوط من حدوث أي تغيير، غير أن من ينظر للتحولات الكبرى التي شهدها العالم بعد كورونا، والتي سيعرفها حتما بعد حرب أوكرانيا يدرك بأنه لن يكون أمام المغاربيين من خيار آخر غير أن يطهروا عقولهم وقلوبهم من كل الأحقاد، ويفتحوا بينهم صفحة جديدة. لكن من سيبادر إلى ذلك؟ ومتى وكيف؟ هذا هو السؤال الذي لا يجيب عنه اليوم أحد.
كاتب وصحافي من تونس