
مارين لوبان: دجاجة راسّل في مسرح راسين؟
حسّنت مارين لوبان أداءها التلفزيوني فتجنبت تكرار هزيمة مناظرة 2017: آنذاك هزمها إيمانويل ماكرون بالضربة القاضية، أما هذه المرة فإنه لم ينتصر عليها إلا بالنقاط. لماذا؟ لأنها اعتكفت بضعة أيام فاستعدّت وراجعت ملفاتها و»حفظت دروسها». لكن رغم كل ما بذلته من جهد في الإعداد فقد تمكن ماكرون من تبيان تهافت منطقها وتناقض مواقفها حتى في مسائل أثيرة لديها، مثل وجوب تحسين القوة الشرائية لدى الشرائح الشعبية. هذا فضلا عن تذكيره لها ولنا بأنها صوتت في البرلمان الأوروبي ضد إرسال مساعدات إلى أوكرانيا، واعترفت بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عام 2014 رغم أنه انتهاك سافر للقانون الدولي، وحصلت على قرض ضخم من بنك روسي يديره مقربون من فلاديمير بوتين (الذي طالما عبرت عن إعجابها به والذي خصها باستقبال رسمي في موسكو). ثم أوجز ماكرون كل ذلك في جملة قاتلة: أنت في حالة تبعيّة للسيد بوتين.
لكن الغريب أن لوبان لم توجه أي رسائل واضحة ومقنعة إلى ناخبي زعيم اليسار الراديكالي جان-لوك ميلنشون، علما أنه سيكون لهؤلاء الوزن الأرجح في حسم النتيجة غدا الأحد، وأن لوبان سعت في جولاتها الانتخابية الأسبوعين الماضيين إلى استمالتهم بكل ما تستطيع. فقد أظهرت استشارة داخل حزب ميلنشون أن الثلث فقط من ناخبيه يعتزمون التصويت لماكرون، أما البقية فإنهم سيمتنعون أو يصوتون بالورقة البيضاء. لكن الاستطلاعات المستقلة تظهر أن ما بين 19 و27 بالمائة من ناخبي ملينشون يميلون الآن إلى التصويت لمارين لوبان! وقد صور رسام الكاريكاتور الهولندي مارتن فولترينك هذا الوضع الغريب بدقة عندما رسم حزب ميلنشون في شكل قنّ دجاج يحوم حوله ثعلب أشقر الشعر (مارين لوبان). لكن رغم الغرابة، فإن هذا ليس مجرد وضع إغراء طارئ من جنس ما تحوم حوله حيل المكر الانتخابي العابر، بل إنه ظاهرة متجذرة في حقيقة اجتماعية أعمق: إنها حقيقة التداخل التدريجي الذي حصل في الأعوام الماضية بين جمهور أقصى اليمين وجمهور أقصى اليسار!
إن الفرنسيين يحبون السياسة لأنها أدبيّة، أي أنها ذات طابع روائي بملاحمها ومكائدها وطعناتها، مثلما هو الشأن عند ألكسندر دوما، أو ذات طابع مسرحي ببطولاتها وانقلاباتها بين غالب ومغلوب، مثلما هي عند راسين وكورناي
ويبدو أنه قد صار للدجاج مكانة ذات دلالة في الرئاسيّات الفرنسية. فقد لجأت «مجلة الفلسفة» هي أيضا إلى الدجاج للتنبيه إلى تكاثر الأدلة على أن المجتمع الفرنسي قد أوغل منذ مدة في مسار تطبيع واسع مع اليمين المتطرف، وللتحذير من الركون إلى أمان توقع تكرار سيناريو 2002 و2017. إذ تلاحظ المجلة أنه كلما تفاقم خطر فوز لوبان وتزايد اقترابها من قصر الأليزي، كلما تناقص تخوّف الناخبين منها! وليس هذا الخطأ الإدراكيّ في نظر المجلة إلا حالة من حالات «دجاجة راسّل». فقد روى الفيلسوف البريطاني برتراند راسّل عام 1912، في صار يعرف بـ»مفارقة الدجاجة» أن الاستقراء مهما طال زمنه ومهما تكاثرت تجاربه وأمثلته، فإنه لا يمكن أن يؤدي إلى معرفة يقينية لأن طول زمن الظاهرة لا يعني دوامها ومعرفة الماضي لا تكفي للتنبؤ بالمستقبل: والقصة أنه كان يا ما كان دجاجة موهوبة في علم المنطق كان يأتيها القمح كل صباح، فلم تسارع الدجاجة، طيلة الأسابيع الأولى، إلى استخلاص أي نتيجة من ذلك. لكن لما تواترت العادة بطول الزمن أخلدت الدجاجة عندها إلى أمان اليقين، ففقدت القدرة على التنبؤ بذلك الصباح الذي أتى فيه الذبح ولم يأت القمح. وقد عبر نسيم طالب عن هذه المفارقة بالقول، في كتابه «طائر التّم الأسود» بأن الشعور بالأمان يبلغ أقصاه عندما يكون الخطر في أعلى درجاته.
أما أطرف المقاربات فهي تلك التي أتى بها الصحافي كريستوف باربيي عندما صور الرئاسيات الفرنسية تصويرا أدبيا باعتبارها تراجيديا يتبارز فيها نوعان من أبطال المسرح. إذ يقول في كتابه «بحثا عن البطل المفقود. الأليزي 2022: راسين ضد كورناي» إن الفرنسيين يحبون السياسة لأنها أدبيّة، أي أنها ذات طابع روائي بملاحمها ومكائدها وطعناتها، مثلما هو الشأن عند ألكسندر دوما، أو ذات طابع مسرحي ببطولاتها وانقلاباتها بين غالب ومغلوب، مثلما هي عند راسين وكورناي. فحياة الفرنسيين الديمقراطية وجه من حياتهم المسرحية: الساسة فيها إما على طراز أبطال مسرحيات كورناي، أي فرسان محاربون مستعدون للتضحية، مثل «السيّد» أو على طراز أبطال راسين، أي شجعان ولكنهم متأملون متسائلون ونهب للشكوك وحتى للدموع، مثل أندروماك وبريتانيكوس. بهذا المعنى ينتسب ساركوزي لعوالم كورناي، وأولاند لعوالم راسين. ورغم أن ماكرون ينتمي لسلالة أبطال كورناي، بما فيهم من امتياز وغرور، فإن فيه كذلك جانبا راسينيّا. ذلك أن قصة حبه مع أستاذته بريجيت هي قصة فيدرا مع هيبوليت! أما مارين لوبان فهي من طراز راسينيّ خالص: هي أريفيل التي قدمت للفداء على مذبح الآلهة (انتخابات 2017) بدل إيفيجيني (فرنسا) ابنة أغاممنون وخطيبة أخيل. فهل تقيها مفارقة دجاجة راسّل، هذه المرة، مصير مسرحية راسين؟
كاتب تونسي