سياسة

ماكرون بين عهدين: الجمهورية الذابلة المستمرة

ارتبط فوز إيمانويل ماكرون بالرئاسة الفرنسية قبل خمس سنوات، بمثابرة هذا الشخص على فكرة بسيطة، وهي الدفاع عن نموذج “الجمهورية الخامسة” في وجه سهولة التبرؤ منه أو رشقه أو الدعوة الى طي صفحته كنموذج.

فهذه الجمهورية القائمة منذ 1958 في إثر انهيار مؤسسات الجمهورية الرابعة، البرلمانية، التي سبقتها، جاءت بتصميم للمؤسسات الدستورية أكثر تماسكاً، من خلال ارساء نظام شبه رئاسي تكون فيه السلطة التنفيذية مزدوجة بين رئاسة جمهورية منتخبة وذات صلاحيات قوية (بالاقتراع العام المباشر على دورتين منذ 1965) وبين حكومة منبثقة عن الأكثرية البرلمانية، بحيث يصير رئيس الجمهورية ملكاً متوّجاً، خاصة إذا كانت الأكثرية البرلمانية إلى جانبه.
ولئن كان النقد الأشد ضراوة لهذه الجمهورية ذاك الذي وجّهه لها الإشتراكي فرنسوا ميتران في الستينيات، ذلك في كتابه “الانقلاب الدائم” الذي حمل فيه على بونابرتية الجنرال شارل ديغول والطابع الشخصي السلطوي لحكمه، متهماً ديغول بالابتعاد عن تعهداته أول ما تولى الرئاسة بأن يكون الحكم الضامن للعبة المؤسسات، وناعياً على الجمهورية الخامسة الفصل بين السلطات، وبالتالي شاجباً تقويض المساحة المستقلة لكل من السلطتين التشريعية والقضائية لصالح تلك التنفيذية المختزلة في شخص الرئيس، ومن ورائه العسكر، فإن ترؤس ميتران لنفس الجمهورية أربعة عشر عاماً، مدة أزيد من تلك التي قضاها ديغول على رأسها، جاءت لتظهر أن هذه الجمهورية الخامسة أكثر صلابة وقدرة على التكيف مع التبدلات والأزمات من سابقاتها في التاريخ الدستوري والسياسي لفرنسا ما بعد الثورة، وعلى هذا الأساس قدّم ماكرون نفسه كمشروع تمثّل كل من ديغول وميتران من خلال ظاهرته الشخصية هو، ومن خلال الحركة المنبثقة عن الحملة الداعمة لوصوله هو الى قصر الإليزيه.
وفي الوقت نفسه الذي دافع فيه ماكرون عن نجاعة مؤسسات الجمهورية الخامسة فإنه قدّم ظاهرته كتجاوز للقطبية الحزبية التي كانت قائمة طيلة العهود السابقة عليه، أي قدّم نفسه في الوقت نفسه كمرشح “محافظ” على المؤسسات القائمة إنما كمرشح “أنتي استبلشمنت” في مقابل الأحزاب التي تزاحمت على تداول السلطة ضمن ذلك النموذج الدستوري التي أخذت هذه الأحزاب تلومه، فيما ماكرون يدافع عنه ويدعو لتجاوزها هي، وهو ما حصل، الى ح كبير.

بعد خمس سنوات من انتخابات 2017 نعود إلى ثنائية ماكرون ولوبان في الدور الثاني، رغم أن العالم تبدل كثيراً في هذه السنوات، ورغم أن شعبية ماكرون صعدت ثم خفتت ثم اندثرت ثم أعيد شحنها من جديد

هذا وماكرون لم يكن غريباً عن الاستبلشمنت، بل أنه بالأحرى صعد درجاته بسرعة فائقة، فمثّل نوعاً من “شعبوية الوسط” في مقابل الشعبويات القصوية، يمينية أو يسارية. لكن سحر “شعبوية الوسط” خاب سريعاً، وظهرت في غضون فترة سريعة أيضاً، عوارض حساسية شعبية أنتي ماكرونية، تتنبت على أرضيتي اليسار واليمين سواء بسواء، وتدعو للانتفاض في وجه “الماكرونيا” بل تقيم تضاداً بين “الماكرونيا” وبين حياة وهناء العدد الأكبر من الناس، وبينها وبين شخصية فرنسا المرغوبة.
الا أن ماكرون الذي كان ترشحه شبه مستبعد قبل نصف عام من تاريخه، عاد واستفاد من مشكلة هذا الخطاب “الأنتي استبلشمنتي” الموجه له هذه المرة. إذ لم يظهر أنه بالمستطاع تخطيه من على يساره (جان لوك ميلانشون) أو من على يمينه (فاليري بيكريس) كمرشح ينازل مرشحة اليمين المتطرف شبه الحاجزة لمقعدها الى الدور الثاني، سلفاً. هذا علاوة على أن المرشحين اليمينيين المتطرفين (مارين لوبان وأريك زمور) واليساري (ميلانشون) دخلوا في إحراج في إثر الحرب الروسية على أوكرانيا، نظراً لهواهم “البوتيني” قبل ذلك (ولو كان الارتباط الأكثر جدية ببوتين هو لمارين لوبان فحسب).
بالنتيجة، بعد خمس سنوات من انتخابات 2017 نعود إلى ثنائية ماكرون ولوبان في الدور الثاني، رغم أن العالم تبدل كثيراً في هذه السنوات، ورغم أن شعبية ماكرون صعدت ثم خفتت ثم اندثرت ثم أعيد شحنها من جديد، ورغم أنه لم ينجز شيئا ذي بال. لكن الرجل يخوض الانتخابات على قاعدة “أنا العاقل وسط مجانين”.
أرجحية أن يرسي الدور الأول على ثنائية تأهل ماكرون في مقابل لوبان للدور الثاني، ليست تعني من تلقائها أن ماكرون سيكون أمام فوز ميسّر أو مضمون بالرئاسة مرة جديدة في مواجهة لوبان في الثاني، ولو بقي هذا هو الإحتمال المفترض أن يتصدّر.
وجه المفارقة هنا، أنه استطاع رغم الخيبة السريعة من الانتظارات المعقودة على وصوله عام 2017 أن يتقدم مجددا باتجاه التجديد له، في مقابل مرشحة اليمين المتطرف لوبان التي تتجه لأن تتأهل للمرة الثانية على التوالي الى الدور الثاني، وهي المرة الثالثة لحزبها بعد أن وصل والدها جان ماري الى هذا الدور في مواجهة جاك شيراك عام 2002.
ومارين لوبان اليوم التي استعارت جزءا من الخطابية الاجتماعية اليسارية في حملتها، بما يتصل بالقدرة الشرائية وتراجع مستوى عيش الفرنسيين، في مقابل فوقية أنتي اجتماعية متواصلة عند ماكرون، قد تحصد نسبة أعلى من السابق في الدور الأول (بانتظار اذاعة النتائج). والأوضح أنها ستحصد نسبة أعلى في الدور الثاني مما حصلت عليه عام 2018 لكنها في الوقت نفسه ظاهرة شحبت بمرور الوقت، من كثرة ما تكررت، ولو أنها استفادت من اتجاه الوضع ككل صوب اليمين، بل استفادت من مرشح يزايد عليها على يمينها، وفي الوقت نفسه بمستطاع اليمين المتطرف التشكيك بفرنسيته هو، كونه ابن مهاجرين، استفادت للإيحاء بأنها رزينة، بدليل وجود من هو أكثر توتراً منها يغالي في ما تطرحه هي.
وكان سعيها “السيزيفي” وراء الانتخابات الرئاسية واحداً من النقاط التي هدّف عليها أريك زمور، حين اعتبرها ظاهرة عالقة بالجري الميؤوس منه من أجل الرئاسة، كونها ليس بمستطاعها اقناع القسم الذي سيبقى أكثرياً من الفرنسيين بالتصويت لها.
وقد تنطّح زمور لذلك، هو المتمتع بدعم ماريون لوبان ماريشال له في مواجهة خالتها. رغم أن استطلاعات الرأي التي كانت تعطيه أرقاماً مرتفعة قبل أشهر عادت وأظهرت تراجع شعبيته (بانتظار النتائج).

الطريف هنا ان زمور قدّم نفسه أكثر قدرة من لوبان على اقناع المناخات التي كانت تصوت في الماضي للديغوليين، على أنه وريث الخط الدولتي الشعبي، البونابرتي الديغولي، وانه مرشح الوصل بين الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية من لوبان “المتبرجزة”. فاته أن هذا التوصيف لنوعية “المنقذ” البونابرتي الديغولي تجعل منه كاريكاتوراً على التوصيف نفسه. لقد وصّف شخصية منقذ خيالي لا يمكن أن تشبهه.
بانتظار صخب ما بعد اذاعة نتائج الدور الأول، يظهر مناخ الانتخابات الرئاسية الفرنسية الحالية، ونسبة الامتناع عن المشاركة، كم أن تأليف يمين فرنسي جدي بعد اندثار الديغولية، وتأليف يسار فرنسي جدي بعد ضمور الحزب الاشتراكي، هما أمران ممتنعان ومؤجلان، في بلد قلما تشكل يمينه على ثنائية “محافظون وأحرار” كما في بريطانيا، وقلما عرف حزبه الاشتراكي وجودا قواعدياً عميقاً يقارن بما لحزب العمال في بريطانيا والاشتراكية الديموقراطية في المانيا، في حين أن الحزب الذي كان له مثل هذا الوجود القواعدي الفعلي في اليسار، كان الحزب الشيوعي الفرنسي. وهو الآخر، يحاول في هذه الانتخابات أن ينفض عنه الغبار، بما في ذلك غبار الانمحاء من أجل ميلانشون سابقاً. في ظل هذا التخبط الايديولوجي الشامل، يهون الأمر لو أن الشعبوية الحيوية تزدهر يمينا أو يسارا أو في الوسط. المشكلة، أو الطامة، في هيمنة ما يمكن وصفه بالشعبويات الذابلة.

القدس العربي

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
جريدة نبض الوطن
%d مدونون معجبون بهذه: