
محمود درويش المقتلع من قرية فلسطينية… فنلندا المذعورة تخلصت من لينين… و«تريندنغ» من دون أحمد فاخوري
يجد المرء نفسه مرتاحاً لانصراف المذيع أحمد فاخوري عن برنامج «تريندنغ» على شاشة «بي بي سي العربية». بلاغته فائضة عمّا يحتاجه برنامج يغطي أبرز أحداث الساعة، وغالباً ما يتناول أكثر الأحداث شعبية. البلاغة الفاقعة منفّرة بعض الشيء، تشعر أنها ستأخذك فوراً إلى ديكتاتور، قد يكون نموذجه الرئيس التونسي قيس سعيد. غير أن بديل الفاخوري جاء هزيلاً للغاية، خفيفاً على نحو لا يطاق.
تناولت واحدة من حلقات البرنامج الأخيرة أغنية يبدو أنها تصدرت التريند أخيراً «سلامة وسلمها سليم»، أغنية الفنان الفلسطيني محمد أبو كايد، نالت تعليقات وحصدت إعجابات، المذيعة الجديدة التي حلت محل الفاخوري كادت ترقص في الفسحة المتاحة أمام الشاشة، ودعت زميلها في الكونترول كذلك إلى الرقص في الحلبة، بل هي رقصت بالفعل، على أنغام أغنية (مزعومة بالطبع) «بسبوس عاشق بسّة ويدلّعها بسبوسة» (لا حول ولا!).
يستطيع نابليون أن يجعل الأشياء صحيحة بقوة المدافع، لكن مع الزمن لا يصح إلا الصحيح. عبارة مكررة أليس كذلك؟ مع ذلك، تظل صحيحة، برغم مدافع نابليون.
من جهة حاولت المذيعة أن ترطب الأجواء إلى حد الاهتزاز، على أساس أنه رقص، ومن جهة ظلت تعود دائماً إلى الفصحى. أداؤها يوحي بقراءة كلام مسبوك وسليم، لكن سرعان ما سنعثر على مذبحة لغوية، هل هناك أفظع من نصب المجرور تارة، ورفعه تارة أخرى، في غضون سطرين!
وفي الجوهر لم نعرف بالضبط سرّ أن تتحول الأغنية (التي وصفت بالأغنية التراثية الفلسطينية) إلى تريند، كما أن المقابلة مع نجل صاحب الأغنية، مغنيها الجديد قالت شيئاَ ذا قيمة، ولا التعليقات المنتزعة من مواقع التواصل الاجتماعي أفادتنا هي الأخرى.
لعلها تُنْسَب إلى نابليون تلك العبارة التي تقول «ما من رجل لا يمكن الاستغناء عنه»، كان (نابليون) قادراً على الاستغناء عن مساعديه مهما بلغت كفاءتهم. يستطيع نابليون أن يقول، وأن يجعل الأشياء صحيحة بقوة المدافع، لكن مع الزمن لا يصح إلا الصحيح. عبارة مكررة أليس كذلك؟ مع ذلك، تظل صحيحة، برغم مدافع نابليون.
أين أنت أيها الفاخوري!
وداعاً لينين
من كان يصدق أن فنلندا، هذا البلد الأوروبي الغني المتقدم، كان مذعوراً إلى هذا الحد من الجار الروسي طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى عشية الرابع والعشرين من شباط/فبراير الماضي (عشية غزو بوتين لأوكرانيا)! ليس فقط إلى حدّ التزام الحياد، بل وكذلك إلى حدّ العيش مرغمين في ظل التماثيل «السوفييتية» البغيضة، يكرهونها، ولا يتجرأون على إزالتها. وعندما تجرأ أحد على تخريب التمثال النصفي البرونزي للزعيم السوفييتي الراحل فلاديمير لينين، في مدينة كوتكا جنوب شرق البلاد، بإلقاء طلاء أحمر فوق ذراع لينين، اضطرت فنلندا للاعتذار من موسكو.
من كان يصدق أن فنلندا، هذا البلد الأوروبي الغني المتقدم، كان مذعوراً إلى هذا الحد من الجار الروسي!
لكنه أزيل الآن من تلك المدينة، تجمع العشرات هناك لمشاهدة تفكيك التمثال، وأحضر البعض زجاجات شمبانيا للاحتفال، قبل وضع التمثال في شاحنة أخذته بعيداً. ولعلّهم لوّحوا بأيديهم ساخرين، متذكرين الفيلم الألماني الرائع: «وداعاً لينين».
في الأشهر الماضية أزالت فنلندا العديد من تماثيل الحقبة السوفييتية من شوارعها. أزيلت آخر تماثيل «حقبة يجب تركها». ويبدو أن ذلك لم يكن ممكناً على مدى العقود السالفة. هذا تأكيد جديد على أن جدار برلين آخر بدأ يتقهقر بقوة. العقبى لكل تماثيل الأرض.
على هذه الأرض
فوجئ سكان قرية المرجة (داخل أراضي الـ48) بأن عبارة محمود درويش ذائعة الصيت «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، التي نقشت فوق صخرة جلبت خصيصاً إلى مدخلها، سرعان ما انتُزعت، لم تصمد، وحسب الباحثة والأكاديمية الفلسطينية هنيدة غانم فإن هناك «في مكان ما من هذا البلد، شخصاً ارتعب من محمود درويش، ومن فكرة الحياة، وبعد أسبوعين اقتُلعت المقولة من مكانها بشكل عنيف ومريب جدًا».
بعد ذلك، تضيف غانم بقي مكان العبارة فارغاً لمدة شهر (لا شك أن الناس كانت تقرأ عبارة درويش في مخيلاتها: هنا، في هذا الفراغ، نقشت عبارة محمود درويش الخالدة: على هذه الأرض..)، ومن ثم «اليوم، تم وضع بيت شعر للإمام الشافعي بدلاً منها: «وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى/ وفارق، ولكن بالتي هي أحسن».
لا بد أن مدخل أي قرية سيتّسع لمعلّقات شعرية منقوشة لو أردنا، لا لبيت شعر واحد، لكن مَن اقتلعَ العبارة الدرويشية أراد رمزية الحكاية.
تعلّق هنيدة غانم بالقول: «فعلياً، بمجرد قلع شعر درويش من مكانه واستبداله بأي شيء، مهما كان، فيه عنف مرعب، فما بالك بشعر يدعو للتسامح! هذا فعل كلّه مجبول بعنف ونقض لما أراده الشافعي، وتوظيف للشافعي عكس مراده واستهتار بعقول البشر».
لا بد أن مدخل أي قرية في العالم سيتّسع لمعلّقات شعرية منقوشة لو أردنا، لا لبيت شعر واحد وحسب، لكن مَن اقتلعَ العبارة الدرويشية أراد رمزية الحكاية، أراد أن يقول «سنختار الشافعي لا محمود درويش»، وبتعبير آخر، ربما: «سنختار الإمام لا الشاعر».
إلى هذا الحد ضاقت البلاد، إلى هذا الحد ضاق العباد، وضاقت العبارة.
لكن لربما كان هنالك أمل ما، بأن عابرين في ظل الصخرة لن يتوقفوا عن تذكّر الحادثة: من هنا انتُزعت عبارة درويش: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».
راشد عيسى
«القدس العربي»