
مستعرضاً قوته في أوروبا…. بايدن للصين: روسيا أولاً
انتخب الرئيس الأمريكي جو بايدن بأغلبية ساحقة لرئاسة الولايات المتحدة لإصلاح جمهورية مريضة ومحطمة، ووجد نفسه خلال سنة في مركز دوامة تشمل أربع أزمات سياسية خارجية تجمعت في الوقت نفسه. بايدن نتاج الحرب الباردة، التي تشكلت فيها شخصيته وفكره السياسي. وقد تم انتخابه في فترة ما بعد الحرب الباردة، ليكتشف بعد سنة أن موسكو ألغت كلمة “بعد” ووضعت كلمة “باردة”. جانباً.
انتخب بايدن لإصلاح منظومة سياسية مسممة ومعطوبة؛ ليدير وباء عالمياً تم إهماله بشكل غير مبال وإجرامي في دولة هي الأكثر تطوراً في العالم من ناحية علمية؛ ولكي يجسر عدم المساواة الذي يهدد النسيج الاجتماعي؛ وليصلح أمريكا المستقطبة ثقافياً؛ ويعيد المجد والعظمة والاحترام لمؤسسة الرئاسة بعد فترة من الفوضى المريرة والغاضبة والمحرضة لـ “حقائق بديلة” وسياسة عرضها سلفه. كان لديه الكثير ليفعله عند دخوله إلى البيت الأبيض.
مر 24 شهرا، وها هو بايدن يجد نفسه في مركز أربع أزمات وفي مركز “العاصفة الكاملة” للسياسة الخارجية. فروسيا غزت أوكرانيا مع تهديد واضح وفظ لتغيير النظام الأوروبي، والصين تتحدى النظام العالمي، وكوريا الشمالية تطلق صاروخاً بالستياً عابراً للقارات “واشونغ 17″، الذي يمكنه حمل رؤوس نووية وربما تصل إلى الولايات المتحدة نفسها، وفي فيينا يعملون كما يبدو على صيغة نهائية لاتفاق نووي جديد مع إيران لا يشمل برنامج الصواريخ لطهران.
القاسم المشترك بين جميع هذه الأزمات أنها لا تشكل تحدياً كبيراً وعميقاً لزعامة وتصميم الولايات المتحدة، إذ لم يكن الزعيم الوحيد الذي يقف أمام عاصفة مركبة ومتعددة الأبعاد، ولكن لأنها أزمات يغيب عنها أي حل أو مسار واضح وجاهز أمام الأنظار. القول بأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد أخطأ في تقديراته الأولية، وبلور استراتيجية خاطئة على أساسها وافترض افتراضات أساسية غير سليمة وأدار الأزمة بثقة شخصية مبالغ فيها من خلال قراءة واقع مشوه، هو الآن الحكمة المقبولة حتى في أوساط الذين غزوا أوكرانيا، وحتى بعد مرور أسبوع أو أسبوعين على ذلك، ما زالوا يحلفون بعبقريته الاستراتيجية ودقته الفائقة.
من بين تقديراته التي تبين أنها خاطئة (عدم فهمه لبايدن، وافتراضه أن أمريكا هي دونالد ترامب، وسوء تقديره لقوة العقوبات وعمقها، وتقديره الزائد لقدرات الجيش الروسي واستخفافه بجودة المخابرات الأمريكية والبريطانية) ثمة تقدير واحد يفتخرون به، وقد تحول تقريباً إلى مبدأ ديني لسياسيين ومحللين، وهو أن “بوتين لم يقدر الغرب بشكل صحيح”. وأقواله بأن الولايات المتحدة في مسار غروب غير قابل للتغيير، وأن الناتو حلف قديم لا هوية له، وأن الغرب مدلل وفاسد ولا قيم جوهرية قوية له، وتنقصه القدرة على الصمود، وهو عبد مطيع لثقافة الاستهلاك المتطرفة والسياسة الشعبوية، والخوف من الأجانب… كلها صورة سلبية قادت بوتين إلى خطأ استراتيجي كبير وهو عدم فهم “وحدة الغرب”.
مهم التأكيد على أن مفهوم “غرب 2022” لا يشبه “غرب الحرب الباردة” بين الأعوام 1945 – 1991. الغرب لم يعد إطاراً جيوغرافياً، رسمت حدوده وتشكلت في الحرب الباردة، بل هو خليط من ثقافة سياسية واقتصادية وقوانين ومؤسسات وعمليات. “الغرب” يشمل اليابان وبريطانيا وفرنسا وكندا والأرجنتين وإسرائيل، رغم الفوارق المهمة فيما بينها. العولمة والاقتصاد الحر وسلاسل التزويد وشركات متعددة الجنسيات وفوق قومية قوية والتزام أساسي بالحرية والحقوق، كل ذلك هو “الغرب”، أكثر مما هو مكان جغرافي. عندما تهدد كل ذلك، فإنك تخلق وتسرع وحدة في المكان الذي يظهر فيه أنها غير موجودة.
زيارة بايدن في أوروبا استهدفت علاج خمس قضايا، ولكل قضية منها إمكانية كامنة لتقطيع وحدة الغرب. الأولى، تحذير روسيا من التصعيد أو من استخدام عقيدة اورويل “التصعيد من أجل تقليص التصعيد”، أي اتخاذ قرار التصعيد لإيجاد وضع جديد منه يمكن إدارة مفاوضات دبلوماسية بدون مواصلة التصعيد.
خلال هذه الأزمة ظهرت بدائل لسيناريوهات تصعيد يمكن لبوتين استخدامها. “تصعيد عمودي”، أي زيادة شدة إطلاق النار سواء بواسطة الصواريخ أو استخدام السلاح غير التقليدي، بما في ذلك السلاح الكيميائي وحتى النووي التكتيكي. هذا التصعيد كان سيخلق نقاشاً في الناتو حول طبيعة وحجم الرد. السيناريو الثاني هو “تصعيد أفقي”، أي توسيع الحرب إلى دول في الناتو، سواء بواسطة هجوم سايبر أو بواسطة قوة عسكرية ممكنة. وفي الحالتين سيتم تفعيل المادة 5 في ميثاق الناتو، التي تنص على الدفاع الجماعي المشترك.
ثانياً، يريد بايدن تمديد وتعميق وتعزيز العقوبات التي فرضت على روسيا والتأكد من أن الشركاء الأوروبيين لا يحاولون إيجاد مبررات وتفسيرات لخرق هذه العقوبات. ينبع خوف أمريكا من ثغرات في مجال استيراد الطاقة. العقوبات لا تسمح بالدفع بالعملة الصعبة، وبعض الدول بدأت تتلهى بالشراء غير المباشر والدفع بالروبل. ما زال لدى الغرب عقوبات ثقيلة لم يتم استخدامها، مثل توسيع عزل روسيا عن المنظومة البنكية العالمية “السويفت” وإدخال أشخاص وشركات أخرى إلى قائمة العقوبات، وفرض عقوبات ثانوية على التجارة المفضلة بواسطة شركة ثالثة.
ثالثاً، إيجاد آلية ومسار تعويض لاعتماد غرب أوروبا على استيراد النفط والغاز الروسي. هذه مهمة للمدى القصير: توفير النفط والغاز في الأسابيع والأشهر القريبة القادمة التي تتطلب زيادة الإنتاج لدول مثل السعودية والإمارات. وللمدى البعيد: وهو مطلوب فيه إيجاد بدائل فورية لاستيراد الغاز الطبيعي السائل، مثلاً من قطر، وبلورة استراتيجية لاستخدام أوسع لبدائل الحصول على الطاقة من الفحم، مثل التوقف عن عبودية النفط والغاز.
رابعاً، إقناع الأوروبيين بأن أي مفاوضات أو وساطة أو خطة استهدفت إنهاء النزاع الآن، مهما ظهر أن هذا أمر أخلاقي وصحيح، سيؤدي إلى عدوان روسي في الغد، الذي سيستخدمه بوتين كمبرر لغزو أوكرانيا. قد تكون روسيا مستعدة لإجراء مفاوضات كهذه في الوقت القريب، بعد أن أعلنت أمس باستعراض مدهش أن هدفها الرئيسي، وهو السيطرة الكاملة على منطقة دونباس، قد تحقق. ولكن مشكوك فيه أن يكون إنهاء الحرب وإبقاء شبه جزيرة القرم والأقاليم الانفصالية لوهانسك ودنيتسك في يد روسيا هي خطة قابلة للتطبيق. أوضح بايدن للأوروبيين بأن هذه كانت نقطة انطلاق لروسيا للاستمرار وليس نقطة نهاية للمواجهة.
خامساً، بث القوة والوحدة والتصميم في أوروبا بصورة لا تستطيع الصين تجاهلها، وتدعوها لفحص سياستها في الشرق وفي بحر الصين الجنوبي، وبصورة ستتشجع فيها حلفاء أمريكا في المنطقة والمحيطين الهندي والهادي، واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وتايلاند وتايوان والهند، وحتى ماليزيا وإندونيسيا في المستقبل غير البعيد.
مع ذلك، في الوقت الذي يبدو فيه بايدن منشغلاً في تعزيز وحدة الغرب في أوروبا، واستعراض زعامة وقوة أمريكية، فإن حلفاء أمريكا يرون الحلقة الضعيفة لهذه الوحدة بالذات داخل أمريكا نفسها. لم يكن بوتين الوحيد الذي شاهد أحداث اقتحام الكابيتول في 6 كانون الثاني 2021. للأوروبيين ولحلفاء أمريكا في آسيا تخوفات وشكوك فيما يتعلق بقوة أمريكا الداخلية واستعدادها للعودة إلى قيادة “نظام عالمي أمريكي”، بما في ذلك دفع الثمن الذي ينطوي عليه ذلك.
كلما ازدادت الأسئلة والشكوك أكثر في الولايات المتحدة حول مسألة هل يجب ومن الجدير دفع الثمن الذي يكتنف هيمنة أمريكا العالمية، فسيتعزز لدى الصين أن الولايات المتحدة في مرحلة أفول إمبريالية، والمطلوب هو الصبر. في نهاية الأزمات، الصين هي الخصم الأكبر في العقود القادمة وليست روسيا.
بقلم: ألون بنكاس
هآرتس 27/3/2022