مقالات

مفارقات تونسية

كم من مفارقات مبكية مضحكة في تونس هذه الأيام!!
ضمن تركيبة الهيئة العليا للانتخابات، التي أعلنها الرئيس التونسي بديلا عن الهيئة المنتخبة التي قام بحلّها، عضوان من هذه الهيئة الأخيرة وعضو آخر من هيئة كانت قبلها، بمعنى أن ثلاثة أعضاء كانوا في هيئة شرعية قبلوا على أنفسهم أن يصبحوا أعضاء مطعونا في شرعيتهم. أكثر من ذلك، من كان نائب رئيس الهيئة الشرعية نبيل بفون، الذي رفض قرار الحل وانتقده علنا وبشجاعة، هو من أصبح رئيسا للهيئة الجديدة!!.
قبل ذلك، ثلاثة من أعضاء «المجلس الأعلى للقضاء» الذي حلّه قيس سعيّد، يُمثلون القضاء العدلي والإداري والمالي، لم يعترضوا على تسميتهم في المجلس الجديد الذي شكّله الرئيس منفردا وعلى مزاجه. لم يمنعهم حسهم القانوني، المفترض، وتشبعهم بقيم العدالة من أن ينتقلوا بين عشية وضحاها من أعضاء شرعيين وفق القانون والدستور إلى أعضاء منصّبين بحكم الأمر الواقع إثر مخالفة مفضوحة للقانون والدستور!!.
قبل هذا وذاك، أعضاء في «مجلس نوّاب الشعب» ينتمون إلى أحزاب تزعم الدفاع عن الديمقراطية ودولة القانون رحّبوا بحل البرلمان من قبل سعيّد، بعد أن كان جمّده لأشهر. وخلال فترة التجميد هذه، كان بعض النوّاب يطالبون الرئيس بإلحاح بضرورة حلّه، مع أن هؤلاء وأولئك يعلمون جيدا، بل ويعلمون أكثر من أي كان، أنه ليس من حق الرئيس حل البرلمان وأن هذا الحل له شروطه وإجراءاته التي حدّدها البرلمان بكل دقة!!.
لن تقف التناقضات عند هذا الحد..
قيس سعيّد نفسه، تحدث عن أن الدستور لا يسمح له بحل البرلمان ثم أقدم على ذلك بعد ثلاثة أيام مستندا إلى ذات الدستور الذي قال إنه لا يسمح!! وقبل الرئاسة تحدث ساخرا عن من يعبث بالدساتير مستحضرا مسرحية لدريد لحّام ورد فيها أن «الدستور أكله الحمار» فإذا به يفعلها هو نفسه. هو أيضا من استهزأ بالاستفتاءات في بلادنا العربية معتبرا أنها «من أدوات الديكتاتورية المتنكرة» قائلا لطلبته في العديد من المناسبات إنه يتمنى أن يعيش يوماً واحداً يرى فيه استفتاء واحداً بأحد البلدان العربية تظهر نتيجته في النهاية أن الشعب يقول (لا )». وها هو الرجل نفسه من يريد تنظيم استفتاء في 25 يوليو/تموز المقبل، وفوق ذلك هو عن دستور جديد للبلاد لا أحد يعلم ما الذي سيتضمنه بل إن اللجنة التي قال إنه سيشكّلها لإعداد هذا الدستور الجديد و»جمهورية جديدة» في «أيام معدودات» لم تر النور بعد والكل يعارضها.

في تونس صحافيون يشتمون نقابتهم ونقيبهم لمعارضتهم أجواء التضييق المتواصل على حرية الصحافة في البلاد والتي جعلتها تتدحرج في الترتيب العالمي لحرية الصحافة ويشنون حملات تشويه ضد كل من يتصدى من زملائهم الصحافيين للانتكاسة العامة التي تشهدها البلاد

لم يتساءل أستاذ القانون الدستوري عن من خوّله أن يقدم على كل ذلك وهو الذي فاز في الانتخابات الرئاسية بناء على دستور وضع يده على القرآن الكريم مقسما على احترامه فإذا به يعبث به شر عبث ويمزقه إربا إربا كمن لم يفعل أحد من قبله في تاريخ البلاد!!.
الأمور لا تقف عند هذا الحد…
في تونس اليوم رابطة للدفاع عن حقوق الإنسان هي الأعرق في إفريقيا، وذات ماض نضالي مشرف ضد الاستبداد ومن أجل دولة القانون سنوات حكم الرئيسين الراحلين بورقيبة وبن علي، لا ترى حرجا في أن تكتب في ذكرى تأسيسها الخامسة والأربعين أن «ما حصل يوم 25 جويلية 2021 (تاريخ انقلاب سعيّد على الدستور) كان منعرجا قد يساعد على تجاوز أزمة عشرية سوداء عجزت فيها الحكومات المتعاقبة على محاربة الفساد وتحقيق مطالب الثورة»!!.
وفي تونس اليوم أيضا صحافيون يشتمون نقابتهم ونقيبهم لمعارضتهم أجواء التضييق المتواصل على حرية الصحافة في البلاد والتي جعلتها تتدحرج في الترتيب العالمي لحرية الصحافة ويشنون حملات تشويه ضد كل من يتصدى من زملائهم الصحافيين للانتكاسة العامة التي تشهدها البلاد!!.
وفي تونس اليوم أيضا شخصيات عديدة لها تاريخ في الدفاع عن الديمقراطية ومقاومة الاستبداد لا يرون حرجا الآن في تجميل الانحرافات والتجاوزات بلغة منافقة مخجلة لمجرد اشتراكهم الحالي مع قيس سعيّد في مناكفاته المملة ضد حركة «النهضة»، خاصة أولئك الذين لهم ضغينة إيديولوجية معها أو حسابات قديمة رأوا الوقت مناسبا لتصفيتها، عبر «وسيط» برز فجأة!!.
وفي تونس اليوم أيضا، نائب برلماني من حزب «تقدمي» لا يزعجه أن يتطوّع لدعم حملة الرئيس ضد القيادي المعارض أحمد نجيب الشابي، الذي يفوقه خبرة وتاريخا نضاليا، لا لشيء سوى أنه عقد مؤتمرا صحافيا حذّر فيه من قرار كان يضمره سعيّد لحل الأحزاب، بما فيها طبعا حزب هذا النائب، فيقول عنه «ما قاله الشابي فرقعة سياسية وتسجيل موقف سياسي». ولم يكتف بذلك بل قال إنه «إذا كانت معلومات الشابي صحيحة فإنها تندرج في خانة خرق واجب التحفظ وتسريب أسرار الدولة (هكذا)، وفي صورة كانت خاطئة فهي ترويج لأخبار خطيرة زائفة»!!.
اللهم صبرك وعفوك!!

محمد كريشان

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
جريدة نبض الوطن