ثقافة و فنون

مهمة المُثقف العَربي اليَوم

الكثير من الأصوات الاجتماعية اليَوم في العالَم العربي، في ظل التحولات التي تخللت بنية المجتمعات العربية وفاعليها، تتساءل عن «تراجع» المثقف العربي عن التزاماته الأخلاقية والنقدية تجاه مجريات الواقع العربي وصيروراته. فلم يعد يُسمع له صوت أو كلمة تذكر. لقد صار كائناً أكاديمياً، فهو يكاد لا يبرح برجه العاجي. إنه نوع من الزهد الأكاديمي. كثيرة هي الأصوات لتي رُفعت في وجه المثقف العربي إزاء الحركات الاحتجاجية التي سُميت بالربيع العربي وما تلاها من ديناميات اجتماعية متأخرة، في هذا القطر العربي أو ذاك. فمن منا اليوم لا يتهم المثقف عندنا بالتقاعس عن مهمته الاجتماعية والسياسية، بل والتنويرية بوصفه مربياً للمجتمع قبل أي شيء. إلى درجة يتحدث فيها العديد من المثقفين العرب عن استقالة هذا المثقف من الشأن العام. فما أكثر المثقفين اليوم الذي ينتقدون المثقفين أنفسهم.
أي مهمة للمثقف العربي اليَوم؟
الكل يتساءل اليوم أين هو المثقف العَربي؟ لكن السؤال هو: هل هناك مثقف يمكن وسمه بالعربي؟ فبأي معنى هو عربي؟ ماذا نعني بداهة عندما نقول مثقفا عربيا؟ إننا نعبر من حيث لا نحتسب عن موقف من المثقف؛ ذلك أن المثقف، وفقاً لهذا الموقف، يعرف من خلال ما يؤديه من دور قومي أو وطني في تقويم السلوكات وتصحيح الاعوجاجات وتصويب الانحرافات. وهل المثقف مطالب بالضرورة بأنْ يكون رجل فضيلة؟ ولعب دور المُصلح الاجتماعي، وهل هو كذلك بالفعل؟ أيْ أنْ يكون فقيهاً عندنا، على ضوء الدور الذي كان يضطلع به الفقيه كرجل علم وسياسة في الحضارة العربية الإسلامية التاريخية. طبعاً لم يعد هذا النوع من المثقفين هو النموذج الغالب عندنا، بل حل محله المثقف الحداثي الذي يتعلق بالأكاديمية، أي بمؤسسة المؤسسات التعليمية: الجامعة. إذ صار الحديث عن مثقف تقليدي خريج التعليم العتيق في مقابل آخر حديث خريج الجامعة، وإنْ كانت الجامعات عندنا اليوم تخرج ما يكفي من المثقفين الذين يُحسبون على العلوم غير الحداثية، لكيلا أقول ليست علوماً، أيْ العلوم الشرعية بمختلف تفرعاتها وتشعباتها. فكيف يُمكن لمؤسسات حديثة أن تخرج مثقفاً تقليدياً؟ وهل هو كذلك بالفعل؟ وبأي معنى هو تقليدي؟ إن علاقة هذا الصنف من المثقف بالسلطة متجذرة في تاريخ مجتمعاتنا. لقد تعددت التصورات والمواقف، وتنوعت الأطروحات والرسائل، فهذا يحدثك عن المثقف التنويري، وذاك عن المثقف العضوي، وغيره عن المثقف المُلتزم، وهؤلاء عن المثقف النقدي، وأولئك عن المثقف المسؤول… وغيرها كثير. لكن مجملها ينطلي على قاسم مشترك لمفهوم المثقف باعتباره شخصية عمومية، أكثر منه أكاديميا متخصصا في هذا المجال المعرفي أو ذاك، في هذه الشعبة الجامعية أو تلك. لكن الإشكال هو: ما موْقعنا نحن العرب ضمن كل هذه النماذج؟ هل حضر عندنا في تاريخنا الفكري والثقافي الحديث المُعاصِر مثقف من طينة أنطونيو غرامشي، أو جان بول سارتر أو ميشيل فوكو أو جيل دولوز، على سبيل المثال لا الحصر، يمثل شخصية عربية عمومية؟ وإن ظل مجمل هؤلاء لمدة ليست قليلة على هامش مجتمعاتهم، وبعيداً عن مراكز السلطة الفعلية، بما فيها سلطة المعرفة السائدة في حد ذاتها.

إن المقاومة في هذا المقام ليست نفياً بالضرورة، وإنما هي فعالية إثباتية في العمق. إنها ليست فعالية إثباتية إلا لكونها تعيد صياغة نفسها باستمرار، أوليست رحالة؟ يتعلق الأمر بمقاومة ثقافية تقوم على الإبداع والخلق، بما فيهما التدمير الخلاق نفسه.

لا أريد أنْ أجازف بأي جواب جاهز عن هذا السؤال، أكان بالإثبات أو بالنفي، لكنني مهما أطلت النظر في الحقل الثقافي العربي الحديث، لا يظهر لي أي مثقف حظي بهذا الدور، فأنْ تكون مثقفاً عمومياً في سياقنا العربي، أو تحظى بشعبية معينة، أو بمصداقية اجتماعية ما، معناه أنك لم تعد مثقفاً. لقد صرتَ إلى حد ما رجل سياسة لكيان سياسي مفقود، هو الكيان السياسي العربي. طبعاً ثمة محاولات ومجهودات عديدة من طرف مثقفين عديدين في هذا الشأن، ولا داعي لذكر الأسماء، لكنها تبقى محاولات محدودة جداً، لا تتعدى قطراً عربياً بعينه. لهذا تساءلتُ في البداية عما نعنيه بالمثقف العربي. وهل هناك مجال عمومي عربي لكي نتحدث عن مثقف عربي عمومي؟ لهذا، عندما أقول بالمثقف العربي، فإني أقصد به مَن يعتبر نفسه كذلك، أو مَن يعتبره المجتمع كذلك، كيفما كان انتماؤه الإثني أو الاجتماعي، أو رأسماله الإشهادي، أو مكانته الرمزية في السوق الأكاديمية والثقافية.
مَن هو المثقف؟ إن المثقف بكل بساطة، وكما تشير إلى ذلك صفته، فاعل ثقافي. إنه ذات فاعلة: لها ما يكفي من القدرة على الفعل في ذاتها وفي العالَم، علاوة على وعيها بفعاليتها تلك. يبقى الإشكال في تحديد مهمة المثقف كفاعل ثقافي، فما هي بالتالي مهمة المثقف العربي اليَوم؟ وهل من الضروري بمكان أنْ تكون للمثقف مهمة بعينها يضطلع بها؟ خارج أسوار الجامعة، خارج الدروس الصفية ومحاضرات المدرجات، أيْ خارج الأكاديمية؛ ذلك أن الجامعة لا تُنتِج لنا مثقفاً فاعلاً بالضرورة، بقدر ما تنتج لنا كائنات أكاديمية تضطلع بمهمات ووظائف تمنحها المؤسسة صفتها المهنية، فيصبح المثقف ممثلاً لسلطة المؤسسة بتفويض إشهادي ورأسمال ثقافي يستحيل إلى رأسمال اجتماعي. لذا، لم يعد المثقف عندنا أكثر من منتوج اجتماعي- مثقف دكتور- أكثر منه فاعلاً ثقافياً واجتماعياً، له ما يكفي من الفعالية.
ما موقع المثقف اليوم؟ ما موقعه ضمن علاقة المجتمع بالسلطة والمنظومة بالفاعلين؟ هل للمثقف أن يكون مع أم ضد؟ أم عليه أنْ يُعلنها حركة مزدوجة بينية، من حيث رحال؟ إن الموقع الطبيعي للمثقف اليوم هو أنْ لا يكون له موقع طبيعي، فموقع المثقف الحقيقي في الهامش؛ هامش كل موقع يقدم أو يقدم نفسه كموقع، يمينياً كان أو يسارياً، دولتياً أو مجتمعياً، مركزياً أو هامشياً. بهذا يكون المثقف مهاجراً في عمرانه ومغترباً في عقر داره، ومتحركاً في سكونه. فلا يكون للمثقف موقع مخصوص إلا باعتباره رحالاً: إن المثقف اليَوم لا يمكن أنْ يكون إلا رحالاً، لكن السؤال هو: هل المثقف عندنا مسلح بما يكفي ليكون رحالاً؟ الجواب هو: لا. فما نوع المعرفة التي ينبغي عليه أنْ يتسلح بها؟ إنها معرفة يتيمة، ذلك هو سلاح كل مثقف رحال.
عَوْدٌ على بَدْء: إذا أعدنا طرح السؤال الذي استهللنا به هذا المقال، أو بالأحرى قمنا باستحضاره من جديد: أي مهمة للمثقف العربي اليَوم؟ سنجيب بـ: المُقاومة الاستراتيجية. ينبغي على المثقف أنْ يكون استراتيجياً. كيف ذلك؟ بالكتابة؛ المقاومة بالكتابة. عن أي كتابة نتحدث؟ الكتابة الرحالة؛ ذلك أن الترحال هو نقيض النظام أو الاستقرار، أيْ السيادة السياسية على المجال الترابي، الأساس الذي تقوم عليه السلطة، أي سلطة، من حيث هي سلطة، بما فيها سلطة المعرفة كمنظومة. إن المقاومة في هذا المقام ليست نفياً بالضرورة، وإنما هي فعالية إثباتية في العمق. إنها ليست فعالية إثباتية إلا لكونها تعيد صياغة نفسها باستمرار، أوليست رحالة؟ يتعلق الأمر بمقاومة ثقافية تقوم على الإبداع والخلق، بما فيهما التدمير الخلاق نفسه. فإنْ تقاوم معناه أنْ تخلق وظائف أو مهام علمية جديدة، فضلاً عن إبداع مفاهيم فلسفية جديدة، علاوة على خلق شخصيات جديدة تشكل خيوطاً من شأنها نسج شبكات مقاومة فعالة. فمن هم المثقفون العرب اليَوم الذين يملكون ما يكفي من الشجاعة والقدرة للاضطلاع بهذه المهمة الشاقة؟

 عثمان لكعشمي

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
جريدة نبض الوطن