ثقافة و فنون

هل يَعذل الصَّاحُون نَشْوانا

هذا العنوان هو عجز بيت للشاعر بشار بن برد. كتب بشّار بالعربية وهو الفارسي الأصل هجوا ومدحا وفخرا وغزلا، وهو في ما كتب مبرّز مقدّم في طبقة رفيعة من الشعراء. وقد اعتدّ بنسبته الفارسية في بائية له شهيرة يقول فيها (جدّي الذي أسْمُو به // كسرى وساسانُ أبي) حتى يقول (ولا حدا قطّ أبي // خلف بعير جَرِبِ). ونسج الرواة خصومة غريبة بينه وبين سيبويه إمام النحاة، وادّعوا أنّ صاحب الكتاب دفع إلى أن يستشهد بشعره رغم أنّ شعره جاوز عصر الفصاحة، وهذا كلام لا يلتفت إليه إذ لا يحتاج شاعر كبشار إلى نحويّ كي يستشهد به حتى وإن كان كبير النحاة، ولا يحتاج نحويّ كسيبويه إلى بيت هو عبارة عن نقطة من بحر لا يفيد البحر ضياعها أو قرارها في جوفه المكين.
لقد قدّمنا إلى هذا الحدّ معلومات عن الشاعر جعلتك تنسج عنه تمثيلات.. عن هذه التمثيلات الحادثة أثناء القراءة يكون حديثنا في هذا المقال.
معلوماتنا عن الكتّاب والشعراء قد تكثر أو تقلّ، ومن الناس من بات يخلط اليوم بين ما يكتبه الكاتب من سرد أو شعر هو نسج خياله، وحياة الشاعر الحقيقية. يخلط الناس بين حديثك عن المرأة الخيال والمرأة ذاتها حتّى إنّك لتحجم عن أن تصف جمالا فاتنا في النصوص دون أن تلاحقك العيون العاذلة أو اللائمة أو الحاسدة، حتى لكأنّك في الغرام إلى (العنكوش) أي الرقبة كما نقول في عاميّتنا التونسية.

بعض البحوث اللسانيّة الحديثة توجّهنا بشكل مميّز إلى تدقيق علاقاتنا بالكتّاب وما يكتبون ففي كتاب صدر في 2020 عنوانه القصير والمختصر Poetry in the mind (أي الشعر في الذهن ) للأستاذة الجامعيّة البريطانية جوانا غافينز Joanna Gavins تعتمد المؤلفة على نظرية ذهنية نفسية في تحليل الخطاب تعرف باسم نظرية عالم النصّ Text world theory، وهي نظرية تدور حول فكرة أنّ البشر وهم يعالجون كل الخطابات ويفهمونها، إنّما هم يبنون تمثيلات ذهنيّة عنها. ولئن كان بول وارث Paul Werthi هو أوّل من وضع أسس هذه النظرية في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، فإنّ غافينز طورتها ودققتها في كتابها «نظرية عالم النصّ» وفيه بيّنت أنّ القراء يبنون تمثيلات ذهنية ناتجة عن فعل القراءة، وتوقفت عند الأسباب والكيفيات التي تبنى بها تلكم التمثيلات.. تستعمل نظرية عالم النصّ كي تساعد الدارسين والمتعلمين على أن ينظروا في تعقّد النصّ وكيف يمكن أن تكون طبقات عالم النص وعالم الخطاب غير واضحة. فإن كان في النصّ الشعريّ مثلا حديث عن الأحلام والرغبات أو الكوابيس، أو غيرها فإنّ ما يعني الدارس هو أن يبيّن كيف يمكن للقارئ أن يتصوّرها ويفهمها ويتتبّعها أثناء تجربة القراءة، من هنا يتفاعل النفسي (العرفاني) واللغوي والثقافي معا في خلق التمثيلات الذهنية لديه.

وبالرجوع إلى بشار بن برد، شاعرنا الذي نريد أن نصنع من قراءة نصّ من نصوصه تمثيلات، نقول إنّ عنوان المقال هو صدر من قطعة يقول فيها: (لا تعذلوني فإنّي من تذكُّره نشوانُ * هل يعذل الصاحون نشوانا // لمْ أدْرِ مَا وصفها يقظانَ قدْ عَلِمتْ* وقد لهوْتُ بها في النوم أحيانا// كانت تُناولني فاهَا فألثمه * جنّيةٌ زُوّجت في النوم إنسانا).
حين يقرأ القارئ هذا المقطع فإنّه سيتردّد بين حالات لم يقرّ الشاعر فيها على قرار فهو نشوان قد ذهب بعقله السكر، وهو يقظانُ لم يكحّل النوم جفنه بالكرى ثمّ هو من بعد ذلك نعسان نائم وهو حالم، وفي الآن نفسه عالم وهو مرّة في عالم الإنس وأخرى في عالم الجانّ. التمثيلات الذهنية أو المناويل الذهنية هي عوالم النص، هي العوالم التي يبنيها القارئ لهذا النصّ عن هذه العلاقة الغرامية بين العاشق النشوان. لكن على القارئ قبل ذلك أن يعود إلى الماضي خطوة كي يستوعب الإطار الثقافي والتاريخي الذي قيل فيه هذا الشعر.

تستعمل نظرية عالم النصّ كي تساعد الدارسين والمتعلمين على أن ينظروا في تعقّد النصّ وكيف يمكن أن تكون طبقات عالم النص وعالم الخطاب غير واضحة.

غير أنّ الرجوع إلى الماضي ليس مفيدا كثيرا في بناء التمثيلات الذهنية، لأنّ هناك تماثلا بين الفاعل وصفاته وعوالمه القديمة، والقارئ وما يمكن أن يفعله في مثل هذه الوضعيّات. فنشوة السكر معلومة بين الزمانين، والعشق وتفاصيله متشابه بين الاثنين والاعتقاد في الزواج من الجنّ ما يزال حاضرا في بعض الأذهان حضورا حقيقيا لكنّه حضور فنّي محبّذ.
أن تقرأ بشّار بن برد في هذا المقطع هل يعينك في بناء عالمك اليومي؟ ربّما عاش القارئ وهو يذكر حبيبته، شعورا جميلا مبهما هو شبيه بنشوة السكران. هذا الشبه قد لا يكون موضوع وعي عند من يعيش الانتشاء بتذكرّ الحبيبة؛ لكنّ الشعر يقدّم له تسمية لهذا الشعور أو قل هو يستعير له من عالم الخمرة شيئا يسمّي به لذة تذكّر الحبيبة.

لكن لماذا ما تزال الذكرى تهيج فينا المشاعر؟ وهل أنّها الذكرى نفسها التي وصفها الشاعر الذي عاش في عصر قديم بوسائل ثقافية مختلفة؟ وسائل التواصل الاجتماعي تتيح لعاشق اليوم أن يلقى من يعشق بلا مشقة، فلماذا يستحضره ذهنا وهو الحاضر صورة وعيانا؟ ثمّ من هذا العذول الذي يبدو حاضرا أبديا في العالم الشعريّ، غير موجود في عالم القارئ الواقعي؟ عالم النصّ سيجعل هذا القارئ يفكّر في أنّ هناك طرفا ثالثا في حكايته مع من يحبّ هو من يعدّ عليه حركاته وسكناته في الشعور بمن يحبّ؛ وإن لم يكن هذا العاذل موجودا فعالم القراءة يخلقه ويجعله يعيش في الذاكرة. هل عليّ أن أذكرها دائما؟ وهل عليّ أن أنتشي بذكرها؟ وهل عليّ أن أراها في كل لحظة؟ ما هذا العشق ألا يوجد شيء يقلّل من هوله؟

إنّ العاذل في عالم النصّ هو شخص يسألك في كلّ مرّة عن سرّ تصرّفك كما تتصرّف، هو جنيّ رقيب وليس جنيّة عاشقة. تبنى عوالم النصّ إذن بالاعتماد على استحضار العلاقة الغزليّة كما كانت سابقا، أو كما افترض لها الشاعر أن تكون نشوة لا بالملامسة والمداعبة، بل بمجرّد التذكر ومعها منغّص ينغّص عليك النشوة إنّه العاذل الذي يبنى له وجود في القصّة، وهو الذي لا وجود له في الواقع. العالم المزدوج: الصاحي والسكران هو أيضا بناء من فعل كون النصّ لأنّه لا يوجد هذا التقسيم في ذهن عاشق الواقع في هذا العصر: يشرب من يشرب ولا يعتقد أنّه قد فرّط في الوجود الواعي من شيء، إلاّ إذا بالغ في الغياب فإنّه سيرى الكون كما يتراءى له وليس ذلك كونا مبعثرا في تصوّره ساعتها، بل هو كون منظم قد أبدع العقل بناءه.. حين يتذكر النشوان وقد صحا من سكره كيف خلط الوعي الواقع بالخيال عندئذ سيكون له كون آخر. الصاحي هو نقيض اليقظان وهذا بناء آخر من عالم النصّ، لا شكّ في أنّ كثيرين لا يعرفون هذا التمييز الدقيق بين الصاحي واليقظ والنشوان، هو يقظ غير صاحٍ واليقظ هو من لم ينتش وهو نائم بعذب الأحلام. والحالم هو شخص يرى في المنام ما يراه، لكنّ النشوان هو حالم يرى في اليقظة ما يراه الحالم في النوم. هذه التفاصيل التي تعجن بالمعاني من النصّ هي التي تصنع عوالم النصّ، وتجعل القارئ يحلم وينتشي ويصحو ويتغزل بالجنّ في النوم وهو من قبل القراءة خالي الذهن من هذ التخليط البهي. لهذا فإنّ القراءة تجربة عرفانيّة لأنّها تقود القارئ إلى أن يجرّب عوالم غير مألوفة يعيشها ويتمثلها، لا كما وصفها الشاعر بالضبط بل كما تمثّلها الكاتب.

 توفيق قريرة

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسيّة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
جريدة نبض الوطن