
وحوش الكاميرات الجائعة من إرهابيي فرنسا إلى قضيّة«ديب – هيرد»: عدالة الكولوسيوم!
في فرنسا لا تدوّن وقائع نصوص المحاكمات، ومن غير القانوني تسجيل أو تصوير لقطات لإجراءات المحكمة. إذ تفترض العدالة – حسب المفهوم الفرنسي – أن ما يحدث في قاعة المحكمة ينبغي إبقاؤه حصرا بين الحاضرين المعنيين. لكن بالطبع كانت هناك استثناءات آخرها (الثالثة عشرة في تاريخ القضاء الفرنسي) محاكمة الرجال المتهمين بتدبير هجمات باريس في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 عندما هاجم إرهابيون مرتبطون بـ»داعش» ملعب فرنسا في سان دونيه، وسلسلة من الحانات في الدائرتين 10 و11، ومسرح «باتاكلان».
أسفرت الهجمات وقتها عن مقتل 130 شخصا واعتبرت الأكثر دموية على الأراضي الفرنسية، منذ الحرب العالمية الثانية. المحاكمة التي بدأت في سبتمبر/أيلول الماضي بحضور مئات المحامين والشهود وأهالي الضحايا يُتوقع لها أن تختتم هذا الشهر.
ومع أن اللّقطات التلفزيونيّة لإجراءات المحاكمة لن تتوفر للعموم قبل موعد رفع السريّة عنها بعد خمسين عاماً – العام 2072 – فإن الجدل استمر طوال الشهور الماضية بشأن تحوّل المحكمة التي خصصت من أجلها قاعة في قصر العدل إلى مشهديّة محض مسيسة، وتظاهرة مسطحة في تناولها لقضايا معقدة مثل الإسلام والديمقراطيّة ودور الدّولة الفرنسيّة، وفوق ذلك كله دوسها على مشاعر النّاجين وأهالي القتلى من خلال إتاحتها الفرصة للإرهابيين المتهمين بالمشاركة في الهجمات للتحوّل إلى ضحايا، لا بل ونجوم أيضاً.
ظهر المتهم الرئيسي صلاح عبد السلام كضحية مسكين، حسب انطباعات الصحافيين الحضور. قال للمحكمة «أردت أن أقول اليوم إنني لم أقتل أحدا» «لم أؤذ أحدا، ولا حتى أصبت أحداً بخدش» «منذ بداية القضية، لم يتوقفوا عن التشهير بي. افتراءات، وافتراءات، وفي النهاية لا بدّ وأن يعلق شيء منها في الأذهان».
عبد السلام، شقيق إبراهيم، الذي يعتقد بأنّه الرأس المدبّر للعمليات، كان يرتدي سترة مجهّزة بجهاز تفجير انتحاريّ، لكنه لسبب ما امتنع عن تفجيره في اللحظة الأخيرة. ليس محسوماً بعد في ما إذا كان فعل ذلك لخلل في الجهاز أو لأنه أصيب بالتردد في مواجهة الموت.
تقول صحافية غطت المحاكمة من خلال متابعة تصريحات الخارجين من قاعتها: «بدا كلامه المعد بعناية غامضاً عمداً فكاأّه يتقصد الحصول على تعاطف الجمهور. إنه يلقي النكات، ويبدو كتلميذ جامعيّ ساحر. يكاد يشعرنا بأنه ينبغي شكره بطريقة ما لأنه لم يقدم على تفجير سترته الانتحارية. ومن ناحية أخرى، فهو يبرر الإرهاب ويدافع عن العبودية والقتل والإعدامات العلنية، وغالبا ما يلجأ من أجل ذلك إلى تعميمات ومتوازيات غريبة».
الأمريكيّون: عن العدالة كبرنامج «تلفزيون واقع» كبير
وإذا كان الفرنسيون قد اشتكوا من تأثر العدالة في محاكمة قتلتهم بالمشهديّة المسيسة، التي انتهت إليها تحت قوس المحكمة – رغم أن الأشرطة التلفزيونيّة لّما تنشر بعد – كما انحراف المداولة فيها من فضاء الوقائع إلى التصورات المؤدلجة، فهم دون شك أصيبوا بحال من الدهشة بعد أن تابعوا وقائع محاكمة قضيّة الممثل الأمريكي جوني ديب ضد زوجته السابقة آمبر هيرد التي نقلت من الولايات المتحدة، مباشرة على الهواء، إلى الملايين من متابعي مئات القنوات التلفزيونات عبر العالم.
ويمكن الزّعم الآن، وبعد أن أصدرت المحكمة قرارها وأوعزت إلى تنفيذه، بأن تداخل المساحات بين المحاكمات القانونيّة وبرامج «تلفزيون الواقع» على الطريقة الأمريكيّة الفجّة أمر لم يخدم العدالة بأي شكل، وأن الانتصار في القضايا الخلافيّة المطروحة أمام القضاء لا ينبغي أن يكون نتيجة قدرة أحد الطرفين دون الآخر على لعب الأدوار واستقطاب تفاعل الجمهور الذي لا يمكن بحال الوثوق به لإحقاق حق أو إدانة باطل؟
لقد أظهرت قضيّة ديب – هيرد بجلاء كيف أن تحويل المحكمة إلى برنامج تلفزيونيّ بادعاء توفير (الشفافية) للمداولات انتهى إلى خلق مناخ أقرب ما يكون لحلبة مصارعة حتى أن محامية هيرد، إيلين بريدهوفت، ألقت بكثير من اللّوم على كاميرات قاعة المحكمة والجو الوحشي الذي ولدته في معرض تبريرها لخسارة موكلتها.
وقالت المحاميّة لشبكة «سي بي إس»: «لقد كانت المحكمة مثل الكولوسيوم الرّوماني.» (الكولوسيوم كانت مبان عامّة في العصر الكلاسيكي الروماني للترفيه عن الجماهير من خلال مشاهدة مصارعة السجناء التعساء مع الأسود الجائعة).
بعض الجمهور برر لنفسه مشاهد محامي ديب، كاميل فاسكيز، وهو يمزّق هيرد بأن ذلك تمّ في إطار التحقق من الوقائع والنقاش الرصين. لكّن الحقيقة أن الإجراءات في محاكم ولاية فرجينيا الأمريكية تجعل من المباح حتى أن تنقل الكاميرات بالبث المباشر تعابير وجه ضحيّة ولغة جسدها بينما تقدم شهادة مؤلمة حول الاعتداء الجنسي عليها من على بعد أمتار من مهاجمها المزعوم. وكل ما سيفعلونه بالطبع هو التقاط أي شيء غير موات، نظرة هنا أو لحظة تردد ليخرجوها عن السياق الكليّ ويتلاعبوا بها مراراً وتكراراً.
وكثيراً ما يستغل محامو الدّفاع عن المتهمين بمثل تلك الاعتداءات الضغط الهائل على الضحيّة (المزعومة لحينه) لقلب المواقع، وتحويل الجاني إلى ضحيّة، والضحيّة إلى جان. وقد لا يعرف البعض مثلاً أن هيرد، استعانت لحضور جلسات المحكمة بمدرّب تمثيل، تحدّث بصفاقة للإعلام عن أن موكلته كافحت لإنتاج دموع حقيقّية أثناء المداولات.
كولوسيوم صار سيركاً: عدالة تستند
إلى وسائل التواصل الاجتماعي
بفضل قضيّة ديب – هيرد أصبح لدينا، وعلى نحو معولم، فهم جيد للنتيجة التي سننتهي إليها حتماً جرّاء إدخال وحوش الكاميرات الجائعة إلى قاعات المحكمة، إذ بمجرد إشراك مؤيدي الطرفين في اللعبة على مواقع التواصل الاجتماعي حتى اتسع الكولوسيوم الروماني الصغير ليصبح عبر الإنترنت سيركاً عالمياً مترامي الأطراف، تسونامي هائل الموجات من الإهانات والإساءات والمواقف الاستعراضيّة التي تسيء لا لطرفي القضيّة فحسب، لكن أيضاً تمنح الفرصة لكل كاره للمرأة أو حاقد على الأثرياء أو الممثلين وأمثالهم لنشر آرائهم على أوسع نطاق.
وبالطبع، وبحكم أن المداولات علنيّة، فإن أعضاء هيئة المحلفين كانوا أحراراً لقضاء عطلات نهاية الأسبوع مع عائلاتهم، إضافة إلى فترة استراحة استمرت لعشرة أيّام كانت أكثر من كافية ليطلعوا بكثافة على العصاب القبلي المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي ترجم كذلك إلى ما يشبه حصاراً لقاعة المحكمة من قبل أنصار أحد الطرفين. فكيف يمكن لهؤلاء ألاّ يتأثروا بما يجري حولهم؟
ضحيّة. نعم. لكن قردة سيرك. لا شكراً
لنا فقط أن نتخيّل التأثير طويل المدى لهذه العدالة المصورة على الأفراد في المجتمع. هل نحن نشجع البعض بشكل أو آخر على الانخراط في الإرهاب من أجل النجوميّة الموعودة والوعد بطرح قضاياهم على المجتمع؟ وهل نحن نقوم بردع الضحايا – من الإناث والأقل عمراً وقدرة ماديّة – على السكوت عن الجرائم المرتكبة بحقّهم خوفاً من تحوّلهم إلى قردة أخرى في السيرك المعولم؟
من الجليّ أنّه لا يمكن تحقيق العدالة من خلال قاعة المحكمة، عندما تصبح متواطئة مع قيم التّرفيه الجماهيري الأمريكيّة. ليس هذا العبث سوى شكل جديد من أشكال «تلفزيون الواقع».
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن